- فتنة : اختبار وابتلاء وامتحان .
وجملة { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } في الآية [ 31 ] قد تكررت بأسلوب مقارب في سور عديدة مدنية منها آية سورة الأنفال هذه : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( 2 ) } وآية سورة آل عمران هذه : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( 173 ) } وآية سورة الأحزاب هذه : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا( 22 ) } ، وآية سورة التوبة هذه : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ( 124 ) } .
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من المسائل التي دار الكلام والبحث حولها بين علماء الكلام وأئمة التأويل من ناحية ما إذا كان الإيمان يزيد وينقص{[2324]} . ومنهم من استدل بها على أنه يزيد وينقص ، أو على تفاضل الإيمان في القلوب ، وهناك أحاديث تساق في سبيل الاستدلال على ذلك أيضا . منها حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري جاء فيه : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ){[2325]} . ومنها حديث رواه الخمسة جاء فيه : ( الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق ، والحياءُ شعبة من الإيمان ){[2326]}
والذي يتبادر لنا أن الإيمان في حدّ ذاته لا يصح عليه زيادة ولا نقص مع احتفاظه بصفته ؛ لأن الزيادة تعني نقصاً سابقاً والنقص يعني تراجعا وشكا وكلاهما ينقض صفة الإيمان لذاته . وكل ما يمكن أن يصح فيما يتبادر لنا أن هناك يقيناً أو إيماناً غيبياً يمكن أن يصير يقيناً أو إيماناً عينياً من قبل طمأنينة القلب بالبرهان والمشاهدة مع الإيمان قبل ذلك إيماناً غيبياً ، ومن قبيل ما حكي في آية البقرة هذه عن إبراهيم وجواب الله على سؤاله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ 260 ] والجملة التي نحن في صددها تتسق مع هذا الشرح من حيث إنها تصف الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بالذين آمنوا وتقرر بتلقيهم الخبر الذي يبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بالتصديق والتسليم تبعاً لإيمانهم بالله ورسوله فيكون ذلك مظهراً جديداً من مظاهر قوة يقينهم وإيمانهم عبر عنه بالزيادة . وهذا ملموح بقوة في آيات آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب التي أوردناها آنفا . ويزداد لمحها قوة من السياق الذي وردت فيه إذا ما أمعن النظر فيه أيضا . والذي يتمعن في الأحاديث النبوية لا يجد فيها على ما يتبادر لنا أية دلالة على ما أريد الاستدلال بها عليه من احتمال الزيادة والنقص في الإيمان لذاته .
وفي سورة الحجرات آيات فيها تدعيم لما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله وهي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( 15 ) } [ 14-15 ] فقد علم الله تعالى أن الأعراب كانوا مشككين مرتابين وهذا يتناقض مع الإيمان فأمر نبيه بإجابتهم بأنهم لم يؤمنوا وكل ما في الأمر أنهم يمكن أن يقولوا أسلمنا ؛ لأنهم أذعنوا وخضعوا فقبل منهم ذلك تسامحاً دون أن يستحقوا صفة الإيمان . ثم وصف المؤمنين الصادقين بأنهم الذين لم يرتابوا بعد أن آمنوا . . . والله تعالى أعلم .
هذا من ناحية الموضوع في ذاته . وأما من ناحية الجملة في مقامها وفي المقامات الأخرى التي وردت فيها ، فالذي يتبادر من روح الآيات والسياق أنها تورد في صدد التنبيه والتنويه والعظة في الأمر الذي جاءت له الجملة . وليست لأجل تقرير الموضوع من الناحية الكلامية والعقائدية . وأن الأولى أخذ الأمر على هذا الوجه والوقوف عنده . وهذا يقال بالنسبة لكثير من الآيات والجمل القرآنية التي يتشاد علماء المذاهب الكلامية حولها ، ويحاولون استنباط مذاهبهم أو الاستناد إليها .
وجملة { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون } في الآية [ 31 ] تفيد أن الذين كانوا يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم موقف العناد والتكذيب والتشكيك فريقان : مرضى قلوب وكفار . ولا بد من أن يكون بينهما فرق . وقد قال بعض المفسرين{[2327]} : وإن في هذا تلميحاً للمنافقين الذين ظهروا فيما بعد في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها . وفي هذا القول تكلف ظاهر فيما يتبادر لنا . فالآيات مكية وتحكي مواقف وصوراً مكية . ولقد حكت آيات قرآنية مكية مواقف لفريقين كانوا في مكة : فريق كان يكذب النبي في دعواه بكل شدة ويقف موقف العناد والمكابرة والصد والأذى بدون هوادة ، وفريق لم يكن في هذه الشدة ، وإنما كان متردداً متشككاً يقنع نفسه بالأعذار الواهية أو يخجل من الناس أو الزعماء أو يخشى شرهم ، بينما كان في قرارة نفسه يعترف بصدق ما كان يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من أخلاق عظيمة وعقل راجح ، مما ينطوي في آية الأنعام هذه : { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( 109 ) } ، وفي آية القصص هذه : { وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( 57 ) } وغيرهما مما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية{[2328]} فالمتبادر أن الفريق الأول هو الذي نعته بمريض القلب . وفي ذلك صورة من صور العهد المكي .
{ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاءُ }
وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه
بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية
التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين : الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه . والثاني مداها من وجهة عامة . ففي صدد الأول نقول : إن أسلوب ومضمون الآية [ 31 ] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويهاً بالمؤمنين ، واستشهاداً بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذاراً للكفار ومرضى القلوب وتنديداً بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار .
وفي صدد الأمر الثاني نقول : إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاماً شاملاً لغير السامعين الأولين للقرآن . وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرير كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد . وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه . ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة ؛ حيث جاء فيها فيما جاء : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } ( المدثر : 37 ) وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهناً بما يكسب : { كل نفس بما كسبت رهينة } ( المدثر : 38 ) كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضاً على صحة هذا التوجيه . وفي سورتي البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا . ونص آيات البقرة هو : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( 26 ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( 27 ) } ونص آيات الرعد هو : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( 27 ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( 28 ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ 29 } ، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله والمؤمنون الذين يعملون الصالحات ، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض ، الناقضون لعهد الله ، القاطعون ما أمر الله به أن يوصل وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل ، دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله ، وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ( 19 ) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ( 20 ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ( 21 ) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( 22 ) } وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله : { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ( 25 ) } . وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ( 30 ) } . وفي سورة إبراهيم آية مؤيدة لهذه المعاني وهي : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء( 27 ) } . كذلك في سورة غافر آيات مهمة فيها مماثلة لهذه الآية مع التوضيح وهي : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ( 69 ) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 70 ) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ( 71 ) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( 72 ) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ( 73 ) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 74 ) } . وفي سورة يونس آية مهمة أخرى في هذا الباب وهي : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَة رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ( 33 ) } وفي سورة الزمر آيات هامة جداً في هذا الباب وهي : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 ) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ( 54 ) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ( 55 )أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( 56 ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( 57 ) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 58 ) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ( 59 ) } ( 53- 59 ) . حيث تدعو الآيات عباد الله المسرفين على أنفسهم إلى الإنابة إلى الله ، واتباع أحسن ما نزل إليهم قبل مداهمة العذاب حتى لا يتحسروا على ما فاتهم من الفرص ، ويقولوا فيما يقولونه : إن لو هدانا الله لاهتدينا وكنا من المتقين فقد جاءتهم آيات الله ليهتدوا بها فكذبوا واستكبروا وكفروا فحق عليهم العذاب .
وقد اهتممنا لتوضيح هذه الآية وبخاصة جملة : { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء( 31 ) } لأنها وأمثالها التي تكررت في القرآن كانت وما تزال موضوع جدل وتشاد بين علماء الكلام في صدد الاستدلال على قابلية الإنسان لاختيار الهدى والضلال ومسؤولية عن اختياره ، ولأنها وأمثالها كانت وما تزال تبدو لبعض الباحثين محل إشكال ، من حيث توهمهم أن الله يقدر الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تقديراً حتمياً لا دخل لإرادتهم واختيارهم وكسبهم وأفعالهم فيه .
ونحن نعرف أن هناك أحاديث نبوية صحيحة قد يتعارض ظاهرها مع هذا التخريج . من ذلك حديث رواه الشيخان عن أنس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد وكّلَ بالرحمِ ملكاً فيقول : أي رب نطفةٌ ، أي ربّ علقةٌ ، أي ربّ مضغةٌ ، فإذا أراد الله أن يقضيَ خلقا قال الملك : أي ربّ ذكرٌ أو أنثى ؟ شقيٌ أو سعيدٌ ؟ فما الرزقُ ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه " {[2329]} . وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن علي قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم ، وفي يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال : ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار . قالوا : يا رسول الله فلم نعمل ؟ أفلا نتّكل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له . ثم قال : { فأما من أعطى واتقى( 5 ) وصدق بالحسنى( 6 ) فسنيسره لليسرى( 7 ) } والآية التالية لها " {[2330]}وحديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه : " قيل : يا رسول الله بيّن لنا دينَنَا كأنا خُلقنا الآن فيم العمل ؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل ؟ قال : لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير . قال : ففيمَ العمل ؟ قال : كل عامل ميسر لعمله " {[2331]} . وفي رواية للترمذي " قال عمرُ يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدعٌ أو فيما قد فرغ منه ؟ فقال : فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب ، كل ميسر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه يعملُ للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء " {[2332]}وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : ( سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله عزّ وجلّ خلقَ خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلَّ فلذلك أقولُ : جفّ القلمُ على علم الله تعالى ){[2333]} .
غير أنه ما دام هناك آيات صريحة بأن الله إنما يضل الظالمين ، وإنه لا يضل إلا الفاسقين ، وإنه يهدي من أناب وما في باب ذلك فينبغي حمل هذه الأحاديث وأمثالها على سبق علم الله تعالى بما سوف يختار عباده من طرق الهداية والضلال .
وهذا الموضوع متصل من ناحية ما بموضوع القدر ، وسيأتي تعليق مسهب عليه في مناسبة آتية أيضا ، وما تقدم هو من ناحية العبارة بالذات ، أما من ناحية جعلها موضوع تشاد كلامي فنقول أولاً : إن الآية كما قلنا قبل قد عنت سامعي القرآن الأولين بقصد التنويه بالمؤمنين منهم وإنذاراً للكفار ومرضى القلوب وتثبت النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن الأولى أن تؤخذ على هذا الاعتبار ويوقف عنده . ومع ذلك فإن المدقق في الآيات وما يماثلها يجدها تهدف بصورة عامة إلى غير ذلك من حيث إنها تهدف إلى التدعيم والتثبيت والوصف والتقريب والتسلية على ما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية ، ويجد أن التشاد حولها لا محل له . ولا يتسق مع أهداف القرآن وحكمة إرسال الرسل وإنذار الناس وتبشيرهم ، وإن الحق يوجب ألا يخرج القرآن عن نطاقه من التبشير والموعظة والدعوة إلى نطاق الجدل والنقاش ، ولاسيما فيما يتعارض مع تلك الأهداف والحكمة .
هذا ، ولقد رأينا عبد الحميد الخطيب المكي يؤول في تفسيره " تفسير الخطيب " الذي نشره حديثا جملة : { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } بنسبة المشيئة إلى الإنسان أي إن الله يُضل من يشاء لنفسه الضلالة بالكفر والإثم ، ويهدي من يشاء الهدى لنفسه بالإيمان والعمل الصالح . وقد هدف بتأويله إلى تثبيت قابلية المشيئة والاختيار للإنسان وتنزيه الله عن إضلال الناس وهدايتهم بدون أن يكون في ذلك أثر لكسبهم واختيارهم وأخلاقهم . ومع أن وجهة نظره تلتقي مع وجهة نظرنا التي شرحناها ، فإننا نرى في تأويله تكلفاً وغرابة على غير ضرورة . ولاسيما وهناك آيات تنسب الهدى والضلال إلى الله وليس فيها جملة " من يشاء " مثل آية البقرة [ 26 ] التي أوردناها آنفا ومثل آية سورة الأعراف هذه : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون( 178 ) } ، ومثل آية سورة الشورى هذه : { ما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فماله من سبيل( 46 ) } .
ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذه المناسبة : أن كثيراً مما يأتي مطلقاً في آيات من أمثال هذه الآية ومما له صلة بكسب الإنسان واختياره ومصيره وثوابه وعقابه يأتي في آيات أخرى مقيداً وموضحاً ، فيزول بذلك الوهم واللبس اللذان قد ينشآن عن الإطلاق ، ويتجلى الانسجام التام بين التقريرات القرآنية . وهذا فضلاً عن أن في القرآن تقريرات ومبادئ محكمة هي بمثابة القول الفصل الذي يجب أن يعول عليه في ما يبدو من إشكالات أو مباينات في عبارة بعض الآيات وسبكها وسياقها . وكثير من الذين يتشادون حول بعض الآيات القرآنية أو يتحيرون أمام ما يرونه في ظاهره إشكالات ومباينات يغفلون عن ذلك . فالحق الواجب هو اعتبار القرآن كلاًّ ، يفسر بعضه بعضا في كثير من الموضوعات والألفاظ والتراكيب والمعاني والسياق والمبادئ ، والاستعانة على تأويل ما يبدو فيه إشكال بسبب إطلاقه وأسلوبه وسياقه وعبارته بالآيات الأخرى التي فيها تقييد ، أو التي جاءت بأسلوب أو في سياق أوضح وأظهر أو بالمبادئ المحكمة التي هي القول الفصل . وحينئذ لا يبقى كثير مما كان من أسباب الخلاف والتشاد حول النصوص القرآنية ، وسنزيد هذا توضيحاً في المناسبات الآتية .
وبمناسبة ورود ذكر الملائكة لأول مرة نقول : إن ذكرهم قد تكرر في القرآن كثيراً وفي مواضع ومناسبات متنوعة . وأكثر المفسرين على أن الاسم مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة ، وأن الكلمة تعني الرسل{[2334]} وفي سورة فاطر آية يمكن أن يستأنس بها على صحة هذا القول بقوة وهي : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } [ 1 ] ، وهناك آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آية سورة النحل هذه : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ 2 ] . وبعض الباحثين يرجعون الكلمة إلى أصل عبراني ويقولون : إنها دخيلة بلفظها ومعناها على اللغة العربية ، ويمكن أن يورد على هذا أن العبرانية والعربية من أصل واحد ، والتشارك بين اللغتين في الأسماء والأفعال والمصادر واسع جداً ، وليس من الضروري أن تكون الكلمة عبرانية ودخيلة إلا إذا فقد من العربية ما يمكن أن يكون أصلا لها . والحال في هذه الكلمة ليست كذلك ما دام يوجد في العربية جذر " ألك " بمعنى أرسل{[2335]} . ولاسيما أن من الممكن أن يكون هذا الجذر أو أي جذر آخر يحتمل أن ترجع إليه الكلمة- مشتركاً بين اللغتين . وهذا يقال بالنسبة لكلمات كثيرة يحلو لبعض الباحثين رجعها إلى العبرانية ، والزعم بأنها دخيلة على العربية . وننبه إلى أننا لا نريد أن ننفي وجود كلمات كثيرة في اللغة العربية القرآنية معرّبة عن لغات أخرى . غير أن هذا قد كان قبل نزول القرآن ، وصار ما في اللغة العربية من ذلك جزءا من هذه اللغة بالصقل والاستعمال . وعلى كل حال فإن مما لا يحتمل شكا أن كلمة الملائكة ومفردها مما كان مستعملاً في اللسان العربي قبل نزول القرآن ومما كان يعد من هذا اللسان ، ومما كان مفهوم الدلالة عند العرب . ودليل هذا الحاسم هو في اتخاذ العرب الملائكة آلهة وشفعاء قبل الإسلام ، واعتقادهم أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات عديدة مثل آيات سورة الصافات هذه : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ( 149 ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ( 150 ) } ، وآيات سورة الزخرف هذه : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ( 17 ) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ( 19 ) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ( 20 ) } وقد حكى القرآن في آيات كثيرة أقوال الكفار عن الملائكة أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك( 8 ) } ، ومنها هذه الآيات في سورة الحجر : { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( 6 ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 7 ) } .
ولقد أيد القرآن ذلك ؛ حيث يفيد ما ورد فيه عن الملائكة أنهم ذوو صلة بالله وأنهم يقومون بخدم متنوعة له من تبليغ الأنبياء والرسل أوامر الله ومن تولي أمر الجنة والنار واستقبال المؤمنين والكافرين حسب ما يستحق كل منهم فيهما ، ومن إنزال العذاب الرباني بمستحقيه في الدنيا ومن تأييد الأنبياء والمؤمنين ، ومن إحصاء أعمال الناس ، ومن حمل عرش الله والتسبيح بحمده ، ومن استعدادهم للقيام بكل مهمة يأمرهم بها الله دون أن يعصوا له أمراً ، وليس في القرآن شيء عن ماهيتهم . وكل ما فيه في صفتهم أنهم أو أن منهم ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع على ما جاء في آيات سورة فاطر التي أوردناها قبل . وهناك حديث رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم في قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ]{[2336]} . وقد يتبادر من الحديث أن الملائكة ليسوا من مادة جامدة . ومع ذلك ففي القرآن ما يفيد أنهم يتراءون للأنبياء وغيرهم بأشكال مادية كما ترى في آيات سورة هود هذه : { وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( 69 ) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ( 70 ) } ، وفيه ما يفيد أنهم يمكن إذا شاء الله أن يتشكلوا على شكل الرجال وينزلوا راكبين الخيل المسومة لتأييد المؤمنين كما ترى في هذه الآيات .
1 - { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ( 8 ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( 9 ) } الأنعام : [ 8- 9 ] .
2 - { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ]{[2337]} .
وهناك أحاديث صحيحة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى ملك الله أو جبريل عليه السلام حينما ينزل عليه ويكلمه بين الناس وإن لم يكن غيره . من ذلك الحديث الذي أوردناه في مطلع السورة والذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الملك على عرش بين السماء والأرض ، ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : ( إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه : كيف يأتيك الوحيُ ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال ، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول ){[2338]} .
وحديث عن عائشة أيضا رواه الشيخان والترمذي جاء فيه : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام . قلت : وعليه السلام ورحمة الله . تَرى يا رسول الله ما لا أرى ) وحديث طويل رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب مفاده : أن جبريل طلع على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صورة رجل وقد جاء فيه : ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل وقد جاء فيه ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال : أي محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن تؤمن بالقدر خيره وشرّه . قال : صدقت . فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق فلبثت مليا ، ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ){[2339]} .
ومهما يكن من أمر فإن وجود الملائكة واختصاصهم بخدمة الله ثابت بصراحة القرآن ، والإيمان بذلك واجب بنص القرآن على ما جاء في آيات كثيرة ، منها آية البقرة هذه : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [ 177 ] وليس وجودهم مما هو خارج عن نطاق قدرة الله تعالى بطبيعة الحال ولو لم تدركه عقولنا التي يعييها إدراك كثير من قوى الكون ونواميسه .
ومن الواجب أن يوقف في أمر ماهيتهم وخدماتهم لله عز وجل واتصالهم بالأنبياء وغيرهم عندما وقف عنده القرآن أو السنة الثابتة بدون تزيد ولا تخمين ، وأن يسلم به تبعاً لواجب التسليم والإيمان بما جاء في القرآن والسنة الثابتة .
ولعل حكمة ما احتواه القرآن من صور عن الملائكة متصلة من ناحية ما بما كان في لأذهان العرب عنهم ، وما كان لهم فيهم من عقائد تأليه واستشفاع وبنوة لله وحظوة لديه مما أشارت إليه آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا ، بحيث أريد فيما أريد تقرير كونهم ليسوا إلا عبيداً لله وخدماً ينفذون أوامره ويسبحون بحمده ، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة والخضوع ، وهو وحده النافع والضار ، وأن من يحيد عن ذلك ويعبد عبيده وخدمة ويرجو منهم النفع والضرر يكون في أشد الضلال والانحراف عما يقضي به العقل والمنطق . وفي آيات سورة الأنبياء هذه : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( 26 ) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ( 27 ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ( 28 ) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ( 29 ) } ، وآيات سورة سبأ هذه : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( 40 ) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون( 41 ) }وآيات سورة الفرقان هذه : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ( 17 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } [ 18 ] وآية سورة النساء هذه : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [ 172 ] قرائن قوية على ذلك . وفي هذا كما هو المتبادر تدعيم للدعوة القرآنية والرسالة النبوية .
وعلى كل حال : إن القرآن وهو يخبر عن الملائكة ، ويتحدث عنهم في شتى المواضع والمناسبات يخبر ويتحدث عن قوى ومخلوقات يعترف السامعون بوجودها وصفاتها بما يقارب ما يقرره القرآن عنها بقطع النظر عن عقائدهم الدينية فيها . وهذه نقطة مهمة في أسلوب القرآن من حيث مخاطبته للناس بما يعرفونه ويسلمون به مستهدفاً العظة والعبرة والتدعيم أيضا ؛ إذ لا يكون الخطاب عن الأمور والوقائع ذا أثر إلا حينما يكون مستمداً من معارف السامعين ومتسقا معها{[2340]} .
ولقد أورد المفسرون كثيرا من البيانات المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم عن مختلف أحوال الملائكة وخدماتهم وخلقتهم وحركاتهم في السماوات والأرضين وحول العرش على هامش ما ورد عنهم من ذلك في القرآن جلها أو كلها غير موثق بأسناد صحيحة ، وفيها إغراب غير قليل وخوض في ماهيات وتفصيلات غيبية من الأحوط الوقوف منها موقف التحفظ . وفيها مع ذلك دلالة على أن الحديث عنهم من شتى النواحي كان مستفيضا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مما يتسق مع ما قلناه ويؤيده .
هذا ، وننبه على أن أسفار العهد القديم والأناجيل قد ذكرت الملائكة في مواضع عديدة بصفتهم رسل الله إلى أنبيائه ومنفذي أوامره . غير أن الأسلوب الذي ذكروا به في القرآن يختلف اختلافاً كبيراً عنه في هذه الكتب ، سواء أكان ذلك في التنويه بما لهم لدى الله من مكانة أو فيما يقومون به من مهام عظمى في الدنيا والآخرة . وهذا من خصوصيات القرآن ولعله متصل من ناحية ما بأحوال بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره .
وبمناسبة ورود تعبير { أهل الكتاب } لأول مرة نقول : إن التعبير يعني على ما يستفاد من الآيات القرآنية أهل الملل التي عندها كتب منسوبة إلى الله تعالى أنزلها على أنبيائه وفيها شرائعه ووصاياه . ولقد تكرر ذكر أهل الكتاب كثيرا في القرآن بأساليب متنوعة ومواضع عديدة في مناسبات شتى . ويلحظ أن الكلام عنهم في الآية التي نحن في صددها يفيد أنهم لم يكونوا مناوئين وجاحدين للرسالة النبوية . وفي القرآن آيات عديدة تفيد ذلك أيضا ، وقد استشهد بهم في آيات كثيرة على صحة النبوة المحمدية والوحي القرآني ووحدة المصدر لكتبهم وللقرآن ولرسالة رسلهم وأنبيائهم ولرسالة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته . وأسلوب الاستشهاد بهم يلهم أن شهادتهم في جانب النبي صلى الله عليه وسلم هي المنتظرة . وفي آيات مكية عديدة ما يفيد أنهم شهدوا وصدقوا وآمنوا مثل آيات سورة القصص هذه : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( 52 )وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ( 53 ) } ( 52- 53 ) وآيات سورة الإسراء هذه : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107 ) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ( 108 ) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( 109 ) } وآية سورة الأنعام هذه : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين( 114 )َ } وآية سورة كالعنكبوت هذه : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ( 47 ) } وآية سورة الرعد هذه : { َالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ( 36 ) } . وهذه : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ( 43 ) } مع التنبيه على أن في السورة المدنية ما يفيد أن من أهل الكتاب من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن في العهد المدني أيضا مثل آية سورة آل عمران هذه : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( 199 ) } وآية سورة النساء هذه : { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما من قبلك } [ 162 ] .
وفي القرآن آيات عديدة تفيد أن المقصود في التعبير بالدرجة الأولى هم اليهود والنصارى مثل آيات سورة البقرة هذه : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 109 ) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 110 ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( 111 ) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( 112 ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 113 ) } [ 109- 113 ] وفي آيات سورة آل عمران [ 63- 67 ] وسورة النساء [ 43- 55 ] وسورة المائدة [ 12- 16 ] وسورة التوبة [ 49- 34 ] نفس الدلالة .
والآيات والروايات الموضحة تدل على أن أكثر الكتابيين في مكة كانوا من النصارى ، ولم يكونوا مع ذلك كتلة كبيرة . ومنهم من كان غير عربي جاء من البلاد المجاورة ، وأنه كان في المدينة وحولها كتلة كبيرة من اليهود ، وأن هؤلاء كانوا جاليات إسرائيلية جاءت قبل البعثة بقرون عديدة إلى هذه المنطقة . وأن بعض أفراد منهم كانوا يقيمون في مكة أو يترددون عليها . وأسلوب الآيات المكية إجمالاً يتسم بالعطف والود نحو أهل الكتاب . وقد طرأ على هذا الأسلوب بعض التبدل في القرآن المدني بالنسبة لليهود بخاصة تبدل موقفهم من الدعوة النبوية{[2341]} ، بسبب أخلاقهم وجبلتهم ومصالحهم خاصة ، وأدى ذلك إلى التصادم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وإجلاء بعضهم والتنكيل ببعضهم . وفي القرآن آيات كثيرة في ما كانوا عليه من أخلاق ووجوه من مواقف الكيد والتآمر . ولقد ذكر القرآن كتب اليهود باسم الكتاب وباسم التوراة وكتب النصارى باسم الإنجيل وذكر أن الله قد أنزلهما وآتاهما موسى وعيسى عليهما السلام . والعبارة القرآنية بذلك صريحة الدلالة على المقصد هو الكتب والتبليغات الربانية بالأحكام والشرائع والمبادئ الإيمانية كما ترى في الآيات التالية :
1- { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ( 3 )مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ . . . } [ آل عمران : 3- 4 ] .
2- { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( 44 ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( 45 ) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ( 46 ) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ فيه ومن يحكم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( 47 ) } [ المائدة : 43- 47 ] .
3- { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 56 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ( 66 ) }[ المائدة : 65- 66 ] .
4- { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } الإسراء : [ 2 ] .
والمتبادر أن اليهود والنصارى قد أسلموا باسم أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب في القرآن بسبب ذلك . وهناك نقاط أخرى في صدد اليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب وما طرأ عليها من تحريف ستكون موضوع تعليقات وبيانات أوفى في مناسبات آتية أكثر بلاغة إن شاء الله .
وننبه على أمر هام ، وهو أن في القرآن ما يسوغ القول : إن تعبير أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى . فهناك آيات تذكر أن الله قد أرسل في كل أمة رسولاً ، وأنه لم تخل أمة إلاّ جاءها نذير وأن الله قد أرسل رسلاً منهم من قصهم في القرآن ومنهم من لم يقصص . وآيات تذكر أهل الكتاب بأسلوب مطلق ، وتأمر المسلمين بأن يعلنوا إيمانه بكل أنبياء الله وكتبه ، كما ترى في الآيات التالية :
1-{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ . . . } البقرة : [ 177 ] .
2- { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ . . . } البقرة : [ 285 ] .
3- { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } آل عمران : [ 84 ] .
4-{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } النساء : [ 136 ] .
5-{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } النحل : [ 36 ] .
6-{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } فاطر : [ 24 ] .
7- { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } غافر : [ 78 ] .
8- { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } الشورى : [ 15 ] .
بحيث يسوغ القول بناء على ذلك : إن التعبير يصح أن يشمل كل أمة تدعي أن عندها كتباً منسوبة إلى الله تعالى أوحيت إلى رجال قدماء منهم وفيها شرائعها وعليها سمة ما من سمات الكتب المنسوبة إلى الله دعوة أو مبادئ أو أحكاما أو وصايا أو شرائع مهما كان فيها تحريف وانحراف ؛ لأن هذا كان وما يزال قائما بالنسبة لليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب منسوبة إلى الله تعالى . ومعلوم اليوم أنه كان في فارس شخص اسمه : زرادشت له كتاب ، ويوصف بأنه من الأنبياء ، وأن أشخاصاً عديدين ظهروا في الأزمنة القديمة في الهند والصين وغيرهما وتركوا كتبا فيها شرائع وتعاليم ووصايا منسوبة إلى خالق الأكوان ورب الأرباب .
وهناك آية مهمة في بابها تؤيد النتيجة التي انتهينا إليها وهي آية سورة الحديد هذه : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } . فذكر ذرية نوح مع ذرية إبراهيم يفيد كما هو المتبادر أن هناك أنبياء آخرين من ذرية نوح أنزل عليهم كتب الله من غير ذرية إبراهيم التي منها جل أبناء بني إسرائيل وبنوع خاص موسى وعيسى اللذين أنزل عليهما التوراة والإنجيل . وليس في القرآن والحديث شيء مهم في ذرية نوح إلاّ ما جاء في القرآن بأن الله نجاها مع نوح من الطوفان الذي أغرق الله به الكافرين . ومن ذلك آية سورة الصافات هذه : { وجعلنا ذريته هم الباقين } [ 77 ] وفي الإصحاحات [ 7- 10 ] من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ذكر أن الذين نجوا مع نوح هم أبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأمهم فصاروا أجداد أمم شتى نمت في آسيا وأفريقية .
وإذا صح ما انتهينا إليه إن شاء الله فيكون من تعنيهم الآيات من كون المقصود بالتعبير بالدرجة الأولى على ما نبهنا عليه قبل هم اليهود والنصارى إنما هو على ما يتبادر بسبب كونهم هم الذين كان العرب الذين أنزل القرآن في بيئتهم يعرفونهم ويتصلون بهم كأهل كتاب ، والله تعالى أعلم .