فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

{ وما جعلنا أصحاب النار } يعني ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها { إلا ملائكة } فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ، فكيف تتعاطون أيها الكافرون مغالبتهم .

قال ابن عباس لما سمع أبو جهل { عليها تسعة عشر } قال لقريش ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، أخرجه ابن جرير وابن مردويه ، وقيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرقة والرأفة ، وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له وأشدهم بأسا وأقواهم بطشا .

{ وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } أي سبب ضلالة { للذين كفروا } أي للذين استقلوا ، عددهم ، والمعنى ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم حتى قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم ، وقيل المعنى إلا عذابا كما في قوله { يوم هم على النار يفتنون } أي يعذبون .

قال ابن عباس في الآية . قال أبو الأشد بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤونتهم قال وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خزان جهنم فقال " كأن أعينهم البرق وكان أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم ، لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم ، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم " أخرجه ابن مردويه .

{ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } المراد بهم اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم قاله الضحاك وقتادة ومجاهد وغيرهم ، والمعنى أن الله سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم .

{ ويزداد الذين آمنوا } من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وقيل أراد المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { إيمانا } أي ليزدادوا يقينا إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم .

وجملة { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } مقررة لما تقدم الإستيقان وازدياد الإيمان ، والمعنى نفي الارتياب عنهم في الدين أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين .

{ وليقول الذين في قلوبهم مرض } المراد بأهل المرض المنافقون ، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق فهو إخبار بنا سيكون في المدينة فهو معجزة له صلى الله عليه وسلم حيث أخبر وهو بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ، أو المراد بالمرض مجرد حصول الشك والريب وهو كائن في الكفار ، قال الحسين بن الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف .

والمراد بقوله { والكافرون } كفار مكة من العرب وغيرهم { ماذا } مجموع الكلمتين اسم استفهام ف { ذا } ملغاة أي أيّ شيء { أراد الله بهذا } العدد المستغرب استغراب المثل { مثلا } تسير به الركبان سيرها بالأمثال ، قال الليث المثل الحديث ومنه قوله { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي حديثها والخبر عنها .

{ كذلك } أي مثل ذلك الإضلال المتقدم وهو قوله { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } { يضل الله من يشاء } من عباده { ويهدي من يشاء } منهم والمعنى مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء الإضلال ويهدي من يشاء هدايته ، وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء ، وفيه دليل على خلق الأفعال ، وقيل المعنى كذلك يضل الله عن الجنة من يشأ ويهدي إليها من يشاء .

{ وما يعلم جنود ربك } أي ما يعلم عدد خلقه ومقدرا جموعه من الملائمة وغيرهم { إلا هو } وحده لا يقدر على علم ذلك أحد ، قال عطاء يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله وحده ، والمعنى أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائمة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه .

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال " فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية " أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ .

وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد " ، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا .

ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال { وما هي إلا ذكرى للبشر } أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم يتذكرون بها ويعلمون كمال قدرته تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ، وقيل ما هي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر ، وقال الزجاج : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة وهو بعيد ، وقيل الضمير في { وما هي } يرجع إلى الجنود .