في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :

( جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ) . .

للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :

( ورضوان من اللّه أكبر ) . .

وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .

( ورضوان من اللّه أكبر ) . .

إن لحظة اتصال باللّه . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعه من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع ?

( ذلك هو الفوز العظيم ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدا ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : حسنة البناء ، طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني ، عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " {[13623]}

وبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَة من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة ، طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم ، لا يرى بعضهم بعضا " أخرجاه{[13624]} وفي الصحيحين أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن{[13625]} حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها " . قالوا : يا رسول الله ، أفلا نخبر الناس ؟ قال : " إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن " {[13626]} وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه ، من رواية زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . . فذكر مثله{[13627]}

وللترمذي عن عبادة بن الصامت ، مثله{[13628]}

وعن أبي حازم ، عن سهل بن سعد{[13629]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون الغُرفة في الجنة ، كما تراؤون الكوكب في السماء " . أخرجاه في الصحيحين{[13630]}

ثم ليعلم{[13631]} أن أعلى منزلة في الجنة مكانٌ يقال له : " الوسيلة " لقربه من العرش ، وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة ، كما قال الإمام أحمد [ بن حنبل ]{[13632]} حدثنا عبد الرازق ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة " قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : " أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " {[13633]} وفي صحيح مسلم ، من حديث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلُّوا عليَّ ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أنى أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة " {[13634]} [ وفي صحيح البخاري ، من حديث محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة " ]{[13635]} وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو شفيعا - يوم القيامة " {[13636]} وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث سعد{[13637]} أبي مجاهد الطائي ، عن أبي المدله ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قلنا : يا رسول الله ، حدثنا عن الجنة ، ما بناؤها ؟ قال : " لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، وملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه " {[13638]} وروي عن ابن عمر مرفوعا ، نحوه{[13639]}

وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لغُرفا يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها " . فقام أعرابي فقال : يا رسول الله ، لمن هي ؟ فقال : " لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " {[13640]}

ثم قال : حديث غريب .

ورواه الطبراني ، من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري ، كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[13641]} وكل من الإسنادين جيد حسن ، وعنده{[13642]} أن السائل هو " أبو مالك " ، فالله أعلم .

وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خَطَر لها ، هي - ورب الكعبة - نور يتلألأ وريحانة تَهْتَزّ ، وقصر مَشيدٌ ، ونهر مُطَّرد ، وثمرة نَضِيجة ، وزوجة حسناء جَميلة ، وحُلَل كثيرة ، ومقام في{[13643]} أبد ، في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية " . قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها ، قال : " قولوا : إن شاء الله " . فقال القوم : إن شاء الله . رواه ابن ماجه{[13644]} وقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك ، رحمه الله ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ، عز وجل ، يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك ، والخير في يدك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من خلقك . فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " أخرجاه من حديث مالك{[13645]} وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرُّخاميّ ، حدثنا الفِرْياني ، عن سفيان ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله ، عز وجل : هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ، ما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر " .

ورواه البزار في مسنده ، من حديث الثوري{[13646]} وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه " صفة الجنة " : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم .


[13623]:- صحيح البخاري برقم (4878) وصحيح مسلم برقم (180).
[13624]:- صحيح البخاري برقم (4879) وصحيح مسلم برقم (2838).
[13625]:- في ت ، ك ، أ : "كان".
[13626]:- صحيح البخاري برقم (7423) من طريق فليح عن هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[13627]:- المعجم الكبير (20/158) وسنن الترمذي برقم (2530) وعند ابن ماجه القطعة الثانية منه برقم (4331) ، وقد أشار الحافظ إلى الاختلاف على عطاء بن يسار.
[13628]:- سنن الترمذي برقم (2531).
[13629]:- في ت : "سعيد".
[13630]:- صحيح البخاري برقم (6555) وصحيح مسلم برقم (2830).
[13631]:- في ت : "لتعلم".
[13632]:- زيادة من ت ، أ.
[13633]:- المسند (2/256).
[13634]:- صحيح مسلم برقم (1384).
[13635]:- زيادة من ت ، ك ، أ. وهو في صحيح البخاري برقم (614).
[13636]:- المعجم الأوسط برقم (639) "مجمع البحرين".
[13637]:- في أ : "عن سعيد".
[13638]:- المسند (2/304).
[13639]:- رواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (96) من طريق عمر بن ربيعة عن الحسن البصري عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا نحو حديث أبي هريرة.
[13640]:- سنن الترمذي برقم (2527).
[13641]:- أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فرواه أيضا الإمام أحمد في مسنده (2/173) من طريق حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وأما حديث أبي مالك الأشعري فهو في المعجم الكبير (3/301) وسيأتي عند تفسير الآية : 20 من سورة الزمر.
[13642]:- في أ : "وعنه".
[13643]:- في ت : "ومقام به في".
[13644]:- سنن ابن ماجه برقم (4332) من طريق الضحاك المعافري ، عن سليمان بن موسى ، عن كريب ، عن أسامة بن زيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد فيه مقال".
[13645]:- صحيح البخاري برقم (6549) وصحيح مسلم برقم (2829).
[13646]:- ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (238) والحاكم في المستدرك (1/82) من طريق محمد بن يوسف الفريابي به نحوه ، وقال الحاكم : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وأقرّوا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ يقول : بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ، خالِدِينَ فِيها يقول : لابثين فيها أبدا مقيمين لا يزول عنهم نعيمها . ولا يبيد . وَمَساكِنَ طَيّبَةً يقول : ومنازل يسكنونها طيبة .

و«طيبها » ، أنها فيما ذُكر لنا كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن الحسن ، قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى : وَمَساكِنَ طَيّبَةٍ في جَنّاتٍ عَدْنٍ فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قَصْرٌ فِي الجَنّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ ، فِيهِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، في كُلّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْنا مِنْ زُمُرّدَةٍ خَضْرَاءَ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا » .

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا قرة بن حبيب ، عن حسن بن فرقد ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين وأبي هريرة ، قالا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : وَمَساكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ قال : «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ ، فِي ذلكَ القَصْرِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، فِي كُلّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتا مِنْ زَبَرْجَدَة خَضْرَاءَ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا ، على كُلّ سَرِيرٍ فِرَاشا مِنْ كُلّ لَوْنٍ ، على كُلّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائِدَةً ، على كُلّ مائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنا مِنْ طَعامٍ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً وَيُعْطَى المُؤْمِنُ مِنَ القُوّةِ في غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ما يَأتي على ذلكَ كُلّه أجْمَعُ » .

وأما قوله : فِي جَنّاتِ عَدْنٍ فإنه يعني : وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جلّ ثناؤه في جنات عدن وفي من صلة مساكن . وقيل : جنات عدن ، لأنها بساتين خلد وإقامة لا يظعن منها أحد . وقيل : إنما قيل لها جنات عدن ، لأنها دار الله التي استخلصها لنفسه ولمن شاء من خلقه ، من قول العرب : عدن فلان بأرض كذا ، إذا أقام بها وخلد بها ، ومنه المعدن ، ويقال : هو في معدن صدق ، يعني به أنه في أصل ثابت وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى :

وَإنْ تَسْتَضِيفُوا إلى حُكْمِهِ *** تُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ

وينشد : «قد وزن » .

وكالذي قلنا في ذلك ، كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر يتأوّلونه .

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : جَنّاتِ عَدْنِ قال : معدن الرجل الذي يكون فيه .

حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الكندي ، سعد عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَفْتَحُ الذّكْرَ ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللّيْلِ : في السّاعَةِ الأُولى مِنْهُنّ يَنْظُرُ فِي الكِتَابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غيرُهُ فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ، ثُمّ يَنْزِلُ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ إلى جَنّةِ عَدْنِ ، وَهيَ دَارُهُ التي لَمْ تَرَها عَيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ ، وَلا يَسْكُنُ مَعُهُ مِنْ بَنِي آدَمِ غيرَ ثلاثَة : النّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ والشّهَدَاءِ ، ثُمّ يَقُولُ : طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ » وَذَكَرَ فِي السّاعَةِ الثّالِثَةِ .

حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : حدثنا زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَدْنٌ دارُهُ » يعني دار الله «التي لم ترها عَيْنٌ ولم تَخْطُرْ على قَلْبٍ بَشَرٍ ، وهي مَسْكَنُهُ ، ولا يسكنها معه من بني آدم غَيْرُ ثلاثٍ : النبيين ، والصدّيقين ، والشهداء ، يقول الله تبارك وتعالى : طُوبَى لمن دَخَلَكَ » .

وقال آخرون : معنى جَنّاتِ عَدْنٍ : جنات أعناب كروم . ذكر من قال ذلك :

حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي ، قال : حدثنا زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد ابن أبي أنيسة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحرث ، أن ابن عباس سأل كَعَبا عن جنات عدن ، فقال : هي الكروم والأعناب بالسريانية .

وقال آخرون : هي اسم لُبْطَنان الجنة ووسطها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : عدن : بُطْنان الجنة .

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان وشعبة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، في قوله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة . قال ابن بشار في حديثه : فقلت : ما بطنانها ؟ وقال ابن المثنى ، في حديثه : فقلت للأعمش : ما بطنان الجنة ؟ قال : وسطها .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة وأبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .

قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بمثله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .

حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى وعبد الله بن مرّة عنهما جميعا ، أو عن أحدهما ، عن مسروق ، عن عبد الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود في قول الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .

وقال آخرون : عدن : اسم لقصر . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبدة أبو غسان ، عن عون بن موسى الكناني ، عن الحسن ، قال : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل . ورفع به صوته .

حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا عبد الله بن عاصم ، قال : حدثنا عون بن موسى ، قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن ، يقول : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حكم عدل ورفع الحسن به صوته .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن في الجنة قصرا يقال له : عدن ، حوله البروج والروح ، له خمسون ألف باب على كل باب حِبَرَة ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق .

حدثنا الحسن بن ناجح ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت يعقوب بن عاصم يحدّث ، عن عبد الله بن عمرو : أن في الجنة قصرا يقال له عدن ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبَرَة ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد .

وقيل : هي مدينة الجنة . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : في جَنّاتِ عَدْنٍ قال : هي مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد ، والجنات حولها .

وقيل : إنه اسم نهر . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن المحاربي ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن عطاء ، قال : عدن : نهر في الجنة ، جناته على حافتيه .

وأما قوله : وَرِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أكْبَرُ فإن معناه ورضا الله عنهم أكبر من ذلك كله ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الجَنّةِ : يا أهْلَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ : لَبّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولونَ : ومَا لَنا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أحَدا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقول أنا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلكَ قالُوا : يا رَبّ وأيّ شَيْ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ ؟ قال : أُحِلّ عَلَيْكُمْ رِضْوَاني فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدا » .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب إلى الرجل ، حين ينشقّ عنه قبره ، فيقول : أبشر بكرامة الله ، أبشر برضوان الله فيقول مثلك من يبشر بالخير ومن أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي كنت أسْهِر ليلك ، وأظمىء نهارك . فيحمله على رقبته ، حتى يوافى به ربه ، فيمثل بين يديه ، فيقول : يا ربّ عبدك هذا اجزه عني خيرا ، فقد كنت أسهر ليله ، وأظمىء نهاره ، وآمره فيطيعني ، وأنهاه فيطيعني فيقول الربّ تبارك وتعالى : فله حلة الكرامة فيقول : أي ربّ زده ، فإنه أهل ذلك فيقول : فله رضواني قال : ورضوان من الله أكبر .

وابتدىء الخبر عن رضوان الله للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جلّ ثناؤه ، فرفع ، وإن كان الرضوان فيما قد وعدهم ، ولم يعطف به في الإعراب على الجنات والمساكن الطيبة ، ليعلم بذلك تفضيل الله رضوانه عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته ، نظير قول القائل في الكلام الاَخر أعطيتك ووصلتك بكذا ، وأكرمتك ، ورضاي بعد عنك أفضل ذلك .

ذلكَ هُوَ الفَوُزُ العَظِيمُ هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات ، هو الفوز العظيم ، يقول : هو الظفر العظيم والنجاء الجسيم ، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد ، ونجوا من الهوان في السفر ، فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة } تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر . { في جنات عدن } إقامة وخلود . وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك . ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع ، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال { ورضوان من الله أكبر } لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء ، وعنه صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا . { ذلك } أي الرضوان أو جميع ما تقدم . { هو الفوز العظيم } الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها .