في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

1

وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج ، وتهدأ الأنفاس اللاهثة ، وتسكن القلوب الطائرة ، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ ، ويوقن الناس بالحياة ، وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?

( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ! ) . .

هكذا بغتة ومفاجأة !

إنه مشهد كامل ، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس ، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين :

( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) . .

سواء كان بغيا على النفس خاصة ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ؛ أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة

والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه ، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .

والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا ، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .

يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به ، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .

إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض ، وربوبية الله وحدها في حياة البشر ، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة ، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد ، ودنس المستنقع ، وامتهان الكرامة ، وفساد المجتمع ، ودناءة الحياة !

( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا ) . .

لا تزيدون عليه !

( ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .

فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك ، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ } أي : من تلك الورطة { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : كأن لم يكن من ذاك شيء{[14153]} { كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }

ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون{[14154]} به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر{[14155]} أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يَدخر{[14156]} الله لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " . {[14157]}

وقوله : { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ } أي : مصيركم ومآلكم{[14158]} { فننبئكم } أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم{[14159]} إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .


[14153]:- في ت ، أ : "كأن لم يكن شيء من ذاك".
[14154]:- في ت : "يضرون".
[14155]:- في ت : "أحذر".
[14156]:- في ت : "يؤخر".
[14157]:- رواه أبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
[14158]:- في ت : "ومآبكم".
[14159]:- في ت : "ونوفكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ مّتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

يقول تعالى ذكره : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا في البحر أنهم أحيط بهم من الجهد الذي كانوا فيه ، أخلفوا الله ما وعدوه ، وبغوا في الأرض ، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه من الكفر به والعمل بمعاصيه على ظهرها . يقول الله : يا أيها الناس إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم وإياها تظلمون ، وهذا الذي أنتم فيه مَتَاعَ الحَيَاةِ الدّنْيَا يقول : ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم . وعلى هذا التأويل ، البغي يكون مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : عَلى أنْفُسِكُمْ ويكون قوله : «مَتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا » مرفوعا على معنى : ذلك متاع الحياة الدنيا ، كما قال : لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ ساعَةً مِن نَهار بلاغٌ بمعنى : هذا بلاغ ، وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم ، لأنكم بكفركم تكسبونها غضب الله ، متاع الحياة الدنيا ، كأنه قال : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، فيكون «البغي » مرفوعا بالمتاع ، و «على أنفسكم » من صلة «البغي » . وبرفع «المتاع » قرأت القّراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق فإنه نصبه بمعنى : إنما بغيكم على أنفسكم متاعا في الحياة الدنيا ، فجعل ، «البغي » مرفوعا بقوله : على أنفُسِكُمْ والمتاع منصوبا على الحال . وقوله : ثُمّ إلَيْنا مَرّجِعُكُمْ يقول : ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم ، وذلك بعد الممات . فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا .