( فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين ) . .
ذلك رد العلية المتكبرين . . الملأ . . كبار القوم المتصدرين . . وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا - بادي الرأي - وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين .
الشبهات ذاتها ، والاتهامات ذاتها ، والكبرياء ذاتها ، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي !
إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر : أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله ؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر . وهي شبهه جاهلة ، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه ، وهي وظيفة خطيرة ضخمة ، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة ، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ، باختيار الله لهم ، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه .
وشبهة أخرى جاهلة كذلك . هي أنه إذا كان الله يختار رسولا ، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم ، المتسلطين العالين ؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني ، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه ، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه . وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض ، إنما هي في صميم النفس ، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى ، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها . . . إلى آخر صفات النبوة الكريمة . . وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء !
ولكن الملأ من قوم نوح ، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ، فلا يدركون مبررا لاختصاص الرسل بالرسالة . وهي في زعمهم لا تكون لبشر . فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض !
( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) . .
هذه واحدة . . أما الأخرى فأدهى :
( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ، بادي الرأي ) ! !
وهم يسمون الفقراء من الناس( أراذل ) . . كما ينظر الكبراء دائما إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان ! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا ؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلى الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء ، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء . ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف ، ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الاستجابة ؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها . وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلا من الاتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك . فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض . ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما ، ويصدون عنها الجماهير ؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير .
( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) . .
أي دون ترو ولا تفكير . . وهذه تهمة كذلك توجه دائما من الملأ العالين لجموع المؤمنين . . أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات . ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ، ولا أن يسلكوا طريقها . فإذا كان الأراذل يؤمنون ، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل ؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون !
( وما نرى لكم علينا من فضل ) . .
يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل ! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ، أو أعرف بالصواب . فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لاهتدينا إليه ، ولم تسبقونا أنتم إليه ! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطيء الذي تحدثنا عنه . قياس الفضل بالمال ، والفهم بالجاه ، والمعرفة بالسلطان . . فذو المال أفضل . وذو الجاه أفهم . وذو السلطان أعرف ! ! ! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع ، أو تضعف آثارها ، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة . وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنسانا ، واستحق الخلافة في الأرض ، وتلقى الرسالة من السماء ؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية !
وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه . ولكنهم على طريقة طبقتهم . . " الأرستقراطية " . . يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق " بالأرستقراط ! " ( بل نظنكم ! )لأن اليقين الجازم في القول والاتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة - بادي الرأي - التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون !
إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ ! !
{ فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } والملأ هم : السادة والكبراء من الكافرين منهم : { مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا } أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا ؟ ثم ما نراك{[14559]} اتبعك إلا أراذلنا{[14560]} كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [ منا ]{[14561]} ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك{[14562]} ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : في أول بادئ الرأي ، { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق ، ولا رزق ولا حال ، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي : فيما تَدَّعونه{[14563]} لكم من البر والصلاح والعبادة ، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها .
هذا اعتراض الكافرين على نوح ، عليه السلام ، وأتباعه ، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح ، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل{[14564]} بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ، ولو كانوا أغنياء . ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، {[14565]} ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال هرقل : هم أتباع الرسل .
وقولهم{[14566]} { بَادِيَ الرَّأَي } ليس بمذمة ولا عيب ؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي{[14567]} ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي{[14568]} . والرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إنما جاءوا بأمر جلي واضح .
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة ، غير أبي بكر ، فإنه لم يَتَلَعْثَم " {[14569]} أي : ما تردد ولا تروَّى ، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع .
وقولهم : { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } هم لا يرون ذلك ؛ لأنهم عُمْي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون : بل هم في ريبهم يترددون ، في ظلمات الجهل يعمهون ، وهم الأفاكون الكاذبون ، الأقلون الأرذلون ، وفي الآخرة هم الأخسرون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.