فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى ، كيف يمحق آثار الصدقة محقا في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ، ولا يستطيع لذلك المحق ردا . تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء . كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء :
( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ؟ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات . .
( جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ) . .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة . . وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها . . كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية . كذلك هي ذات روح وظل ، وذات خير وبركة ، وذات غذاء وري ، وذات زكاة ونماء !
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا ، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار
ومتى ؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها ، وحاجة إلى ظلها ونعمائها !
( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء . فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) . .
من ذا الذي يود هذا ؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص ، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة ؛ وما فيه من نضارة وروح وجمال . ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه نار . . يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار ، قبل أن تذهب فرصة الاختيار ، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار !
وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة ، وفي طريقة عرضه وتنسيقه . . . هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى . بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها . . إنها جميعا تعرض في محيط متجانس . محيط زراعي ! حبة أنبتت سبع سنابل . صفوان عليه تراب فأصابه وابل . جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين . جنة من نخيل وأعناب . . حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير .
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير . . حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية . حقيقة الأصل الواحد ، وحقيقة الطبيعة الواحدة ، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء . وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام - هو ابن يوسف - عن ابن جريج : سمعت عبد الله{[4441]} بن أبي مُلَيكة ، يحدث عن ابن عباس ، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا : الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم{[4442]} . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعمل . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي
حتى أغرق{[4443]} أعماله{[4444]} .
ثم رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، فذكره{[4445]} . وهو من أفراد البخاري ، رحمه الله .
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح{[4446]} واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوجَ ما كان إليه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد{[4447]} { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } أي : أحرق{[4448]} ثمارَها وأباد أشجارها ، فأيّ حال يكون حاله .
وقد روى ابن أبي حاتم ، من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس قال : ضرب الله له مثلا حسنًا ، وكل أمثاله حسن ، قال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يقول : ضيّعَه في شيبته { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق {[4449]} بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذ ردّ إلى الله عز وجل ، ليس له خير فيُسْتَعْتَب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه ، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته .
وهكذا{[4450]} ، روى الحاكم في مستدركه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : " اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري " {[4451]} ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي : تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني ، وتنزلونها على المراد منها ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.