في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

261

أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله ( ابتغاء مرضاة الله ) . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .

( أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) . .

أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :

( فإن لم يصبها وابل ) . . غزير . . ( فطل ) من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !

إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .

ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب :

والله بما تعملون بصير . .

/خ274

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

وهذا مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في المعنى ، قوله عليه السلام{[4436]} في الحديث المتفق على صحته : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا . . . " أي : يؤمن أن الله شرعه ، ويحتسب عند الله ثوابه .

قال الشعبي : { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : تصديقا ويقينا{[4437]} . وكذا قال قتادة ، وأبو صالح ، وابن زيد . واختاره ابن جرير . وقال مجاهد والحسن : أي : يتثبتون أين يضعون{[4438]} صدقاتهم .

وقوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي : كمثل بستان بربوة . وهو عند الجمهور : المكان المرتفع المستوي من الأرض . وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار .

قال ابن جرير : وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق . وفتحها ، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال : إنها لغة تميم . وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس .

وقوله : { أَصَابَهَا{[4439]} وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : ثمرتها{[4440]} { ضِعْفَيْن } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان . { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك : هو الرَّذَاذ ، وهو اللين من المطر . أي : هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا ؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا ، بل يتقبله الله ويكثره وينميه ، كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .


[4436]:في جـ، أ، و: "صلى الله عليه وسلم".
[4437]:في و: "وتيقنا".
[4438]:في ج: "أي يضعوا".
[4439]:في جـ، أ: "فأصابها" وهو خطأ.
[4440]:في جـ، أ، و: "أي ثمرها".