في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (90)

75

ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها :

( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين ) . .

بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !

وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .

وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : ( بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (90)

قال مجاهد : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل ، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه .

وقال السدي : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يقول : باعوا به أنفسهم ، يعني : بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [ وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته ]{[2161]} .

وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا .

قال ابن إسحاق عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد ، عن ابن عباس : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : إن الله جعله من غيرهم { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس : فالغضب على الغضب ، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم .

قلت : ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا ، واستحقوا ، واستقروا بغضب على غضب . وقال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد ، وبالقرآن {[2162]} عليهما السلام ، [ وعن عكرمة وقتادة مثله ]{[2163]} .

قال السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل ، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم

[ وعن ابن عباس مثله ]{[2164]} .

وقوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، [ أي : صاغرين حقيرين ذليلين راغمين ]{[2165]} .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم ، يقال له : بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون{[2166]} من طينة الخبال : عصارة أهل النار " {[2167]} .


[2161]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2162]:في جـ، ط، ب، أ، و: "بكفرهم بمحمد والقرآن".
[2163]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2164]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2165]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2166]:في جـ، ط: "ويسقون".
[2167]:المسند (2/179).