في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

75

ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة . بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة ، وكان هناك التمرد والمعصية :

( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا : سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) . .

والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية . . يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم ، ويلتفت إلى المؤمنين - وإلى الناس جميعا - فيطلعهم على ما كان منهم . . ثم يلقن الرسول [ ص ] أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح :

( قل : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! ) . .

ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين : ( قالوا : سمعنا وعصينا ) . . ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) . .

إنهم قالوا : سمعنا . ولم يقولوا عصينا . ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا ؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق . لقد قالوا بأفواههم : سمعنا . وقالوا بأعمالهم : عصينا . والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته . وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق . . وهذا التصوير الحي للواقع يومىء إلى مبدأ كلي من مباديء الإسلام : إنه لا قيمة لقول بلا عمل . إن العمل هو المعتبر . أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة ، وهي مناط الحكم والتقدير .

فأما الصورة الغليظة التي ترسمها : ( وأشربوا في قلوبهم العجل )فهي صورة فريدة . لقد أشربوا . أشربوا بفعل فاعل سواهم . أشربوا ماذا ؟ أشربوا العجل ! وأين أشربوه ؟ أشربوه في قلوبهم ! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك الصورة الساخرة الهازئة : صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب ! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور ، بالقياس .

إن التعبير الذهي المفسر . . إنه التصوير . . السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك . { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ بِكُفْرِهِمْ ]{[2179]} } قال : أشربوا [ في قلوبهم ]{[2180]} حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم "

ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به{[2181]} وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه . فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول الله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل{[2182]} عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد{[2183]} وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب{[2184]} .

وقال سعيد بن جبير : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال : لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران .

وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ ثم قال القرطبي ]{[2185]} وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ، يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :

تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب*** ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير

وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم - إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟ !


[2179]:زيادة من جـ، ط، ب، و.
[2180]:زيادة من جـ، ط، ب، و.
[2181]:المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130).
[2182]:في أ: "حدثنا إسماعيل".
[2183]:في هـ: "عبد الله" وهو خطأ.
[2184]:تفسير ابن أبي حاتم (1/282).
[2185]:زيادة من أ، و.