( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ؛ وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :
كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
( كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ) . .
حسبة لله . وتعاملا مباشرا معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملا مع الله . وتجردا من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .
( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) . .
وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولا ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدركها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا . . ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد ان توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية ؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا ؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .
( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . .
وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشى ء معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .
( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) . .
والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها ، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .
وأخيرًا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .
وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .
ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين !
حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله [ ص ] يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله [ ص ] بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم ! فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي .
لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول [ ص ] على المنهج الرباني المنفرد . وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح ؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج !
ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة ؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون ؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية ؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة ؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله . .
ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة ؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم ؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .
وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت ؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ؛ وبالأنظمة والاوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة ! في تلك القرون البعيدة ! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة !
هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع !
وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان ! ! !
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله{[8464]} لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .
وقوله : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } كَمَا قَالَ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : اشهد الحق{[8465]} ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مَضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .
وقوله : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تُراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .
وقوله : { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : لا ترعاه{[8466]} لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .
وقوله { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ]{[8467]} .
وقوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : { تَلْوُوا } أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللّي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] {[8468]} } [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : وسيجازيكم بذلك .