في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (70)

66

ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ؛ وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة :

( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ، وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . .

ونقف من الآية أمام عدة أمور :

أولها : أن الرسول [ ص ] وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة وقانونا ، إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا . . والذي يتحدث عن مبادى ء هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن " الغيب " - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن " الزكاة " وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادى ء هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية ، أو الإقطاعية ، أو " البرجوازية " الزائلة ! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها " أغلال ! " . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية . . السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون : إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . . أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا ، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم لما كانوا يكفرون . .

وثانيها : أن الرسول [ ص ] وينسحب الامر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا ، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم ، ولا شفيع يشفع لهم ؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .

وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول :

( وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) . .

فكل نفس على حدة تبسل [ أي ترتهن وتؤخذ ] بما كسبت ، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة !

فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا ؛ وحق عليهم ما سبق في الآية ؛ وكتب عليهم هذا المصير :

( أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )

لقد أخذوا بما فعلوا ؛ وهذا جزاؤهم : شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون ؛ وعذاب أليم بسبب كفرهم ، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .

وثالثها : قول الله تعالى في المشركين : ( الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا ) . .

فهل هو دينهم ؟ . .

إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام ، ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .

فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام ؟ إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعا . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .

ولهذه الأضافة دلالتها في قوله :

( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا ) . .

فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه ، من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة . فمن اتخذه لعبا ولهوا ، ، فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .

ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون ؟ إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من احد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه ، مهما تسموا بأسماء المسلمين ! فلنكن من أمر ديننا على يقين !

ورابعها : حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله ؛ أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .

وقد جاء في قول القرطبي في كتابه : الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية :

" في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل ، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم ، لهم أن يخالطوا الفاسقين ، ويصوبوا آراءهم تقية . . "

ونحن نقول : إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور . لأنه - في ظاهرة - إقرار للباطل ، وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس ، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .

كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال :

" قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمنا كان أو كافرا - قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ، ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع ؛ وألا تعتقد مودتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي : اسمع مني كلمة ، فأعرض عنه ، وقال : ولا نصف كلمة ! . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله ، وأخرج الإسلام من قلبه ، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ؛ ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله [ ص ] " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . .

فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ؛ ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع ؛ ولكنه كفر كافر ، أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى - وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان ! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (70)

يقول تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ؛ ولهذا قال : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : وذكر الناس بهذا القرآن ، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة .

وقوله : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : لئلا تبسل . قال الضحاك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن ، والسُّدِّي : تبسل : تُسْلَم .

وقال الوالبي ، عن ابن عباس : تفتضح . وقال قتادة : تُحْبَس . وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ . وقال الكلبي : تُجَازَي{[10832]}

وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير ، والارتهان عن درك المطلوب ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] .

وقوله : { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، كما قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] .

وقوله : { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : ولو بذلت كلّ مبذول ما قبل منها كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ]{[10833]} } [ آل عمران : 91 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } .


[10832]:في م، أ: "تجزي".
[10833]:زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".