والآن يجيء المقطع الأخير في السورة خاصا بتعليم يتعلق بالجمعة ، بمناسبة ذلك الحادث الذي وقع ربما أكثر من مرة ، لأن الصيغة تفيد التكرار :
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . فإذا قضيت الصلاة فاننتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة ، التي لا تصح إلا جماعة . . وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله . وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة ؛ وكلاهما عبادة . وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف . وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب .
جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " .
وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها " . .
وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج يأتي المسجد ، فيركع إن بدا له ، ولم يؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينهما وبين الجمعة الأخرى " . .
والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع - وسائر نشاط المعاش - بمجرد سماعهم للأذان :
( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) . .
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت :
( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب . وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس ؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض ، ليخلو إلى ربه ، ويتجرد لذكره ، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى ، ويملأ قلبه وصدره
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : اقصدوا واعمدوا{[28836]} واهتموا في مَسيركم إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها : " فامضوا إلى ذكر الله " . فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه ، لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تُسرِعوا ، فما أدركتم فصَلُّوا ، وما فاتكم فأتموا " . لفظ البخاري{[28837]}
وعن أبي قتادة قال : بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال ، فلما صلى قال : " ما شأنكم ؟ " . قالوا : استعجلنا إلى الصلاة . قال : " فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة{[28838]} فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " . أخرجاه{[28839]}
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .
رواه الترمذي ، من حديث عبد الرزاق كذلك{[28840]} وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بمثله{[28841]}
قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع .
وقال قتادة في قوله : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني : أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المشي إليها ، وكان يتأولُ قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } [ الصافات : 102 ] أي : المشي معه . روي عن محمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، وغيرهما نحو ذلك .
ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل " {[28842]}
ولهما عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم " {[28843]}
وعن أبي هُرَيرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده " . رواه مسلم{[28844]}
وعن جابر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم ، وهو يوم الجمعة " . رواه أحمد ، والنسائي ، وابن حبان{[28845]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة ، صيامها وقيامها " .
وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي{[28846]}
وعن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنه ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " أخرجاه{[28847]}
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ، ويتطيب ويتسوك ، ويتنظف ويتطهر . وفي حديث أبي سعيد المتقدم : " غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواكُ ، وأن يَمَس من طيب أهله " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عمران بن أبي يحيى ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبي أيوب الأنصاري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله - إن كان عنده - ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع{[28848]} - إن بدا له - ولم يُؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى " {[28849]}
وفي سنن أبي داود وابن ماجة ، عن عبد الله بن سلام ، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته " {[28850]} وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النّمار ، فقال : " ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته ، سوى ثوبي مهنته " . رواه ابن ماجة{[28851]}
وقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ } المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال : حدثنا آدم - هو ابن أبي إياس - حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان [ بعد زمن ]{[28852]} وكثر الناس ، زاد النداء الثانيٍّ{[28853]} على الزوراء {[28854]} يعني : يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة ، بقرب المسجد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا محمد بن راشد المكحولى ، عن مكحول : أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ، ثم تقام الصلاة ، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع الشراء{[28855]} إذا نودي به ، فأمر عثمان ، رضي الله عنه ، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس .
وإنما يؤمر بحضور الجمعة [ الرجال ]{[28856]} الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض ، وقَيّم المريض ، وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو مقرر في كتب الفروع .
وقوله : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي : اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة : ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني . واختلفوا : هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين ، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم .
وقوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم ، أي : في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون .