وفي ظلال هذا المشهد كذلك يتوجه بالتثبيت للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تجاه جدلهم وتكذيبهم في هذه الحقيقة الواضحة المشهودة بعين الضمير :
( نحن أعلم بما يقولون . وما أنت عليهم بجبار . فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . .
( نحن أعلم بما يقولون ) . . وهذا حسبك . فللعلم عواقبه عليهم . . وهو تهديد مخيف ملفوف .
( وما أنت عليهم بجبار ) . . فترغمهم على الإيمان والتصديق . فالأمر في هذا ليس إليك . إنما هو لنا نحن ، ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون . .
( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . . والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب . على ذلك النحو العجيب .
وحين تعرض مثل هذه السورة ، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان . ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون . وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين ! وصدق الله العظيم . .
{ وما أنت عليهم بجبار } أي بمسلط عليهم تجبرهم على الإسلام ؛ وهو كقوله تعالى : " لست عليهم بمسيطر " {[329]} . و " جبار " صيغة مبالغة ؛ من جبر الثلاثي . يقال : جبره على الأمر ، أي قهره عليه كأجبره . والله أعلم .
قوله تعالى : " نحن أعلم بما يقولون " أي من تكذيبك وشتمك . " وما أنت عليهم بجبار " أي بمسلط تجبرهم على الإسلام ، فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال . والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر ، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج ، حكاه القشيري . النحاس : وقيل معنى جبار لست تجبرهم ، وهو خطأ ؛ لأنه لا يكون فعال من أفعل . وحكى الثعلبي : وقال ثعلب قد جاءت أحرف فَعَّال بمعنى مُفْعِل وهي شاذة ، جبار بمعنى مجبر ، ودراك بمعنى مدرك ، وسراع بمعنى مسرع ، وبكاء بمعنى مبك ، وعداء بمعنى معد . وقد قرئ " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد{[14191]} " [ غافر : 29 ] بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى . وقيل : هو الله . وكذلك قرئ " أما السفينة فكانت لمساكين{[14192]} " [ الكهف : 79 ] يعني ممسكين . وقال أبو حامد الخارزنجي{[14193]} : تقول العرب : سيف سَقَّاط بمعنى مسقط . وقيل : " بجبار " بمسيطر كما في الغاشية{[14194]} " لست عليهم بمصيطر " [ الغاشية : 21 ] . وقال الفراء : سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره ، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح . قيل : الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان . الجوهري : وأجبرته على الأمر أكرهته عليه ، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر ، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر{[14195]} . " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " قال ابن عباس : قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت : " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب ، فالوعيد العذاب والوعد الثواب ، قال الشاعر :
وإني وإن أَوْعَدْتُه أو وَعَدْتُه *** لمُخْلِفٌ إيعادي ومنجزٌ مَوْعِدِي
وكان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك . وأثبت الياء في " وعيدي " يعقوب في الحالين ، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف ، وحذف الباقون في الحالين . والله أعلم . تم تفسير سورة " ق " والحمد لله .
ولما أقام سبحانه الأدلة على تمام قدرته وشمول علمه وختم بسهولته عليه واختصاصه به ، وصل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بتهديدهم على تكذيبهم بالعلم الذي هو أعظم التهديد فقال : { نحن } أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم { أعلم } أي من كل من يتوهم فيه العلم { بما يقولون } أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا .
ولما كان التقدير : فنحن قادرون على ردهم عنه بما لنا من العلم المحيط وأنت لهم منذير تنذرهم وبال ذلك ، عطف عليه قوله : { وما أنت عليهم } ولما أفاد حرف الاستعلاء القهر والغلبة صرح به مؤكداً في النفي فقال : { بجبار } أي متكبر قهار عات تردهم قهراً عما تكره منهم من الأقوال والأفعال ، إنما أنت منذر ، ولما نفى عنه الجبروت ، أثبت لهم ما أفهمه واو العطف من النذارة كما قدرته قبله ، فقال مسبباً عنه معبراً بالتذكير الذي يكون عن نسيان لأن كل ما في القرآن من وعظ إذا تأمله الإنسان وجده شاهداً في نفسه أو فيما يعرفه من الآفاق { فذكر } أي بطريق البشارة والنذارة { بالقرآن } أي الجامع بمجده لكل خير المحيط كل صلاح { من يخاف وعيد * } أي يمكن خوفه ، وهو كل عاقل ، ولكنه ساقه هكذا إعلاماً بأن الذي يخاف بالفعل فيكشف الحال عن إسلامه هو المقصود بالذات ، وغيره إنما يقصد لإقامة الحجة عليه لا لدده ولا يؤسف عليه ولا يتأثر بتكذيبه بل يعتقد أنه عدم لا تضر عداوته ولا تنفع ولايته ، وما آذى إلا نفسه وكل من والاه في الدنيا والآخرة ، وهذا هو المجد للقرآن ولمن أنزله ولمن أتى به عنه بتمام قدرة من هو صفته وشمول علمه ، فقد انعطف هذا الآخر على ذلك-{[61267]} الأول أشد انعطاف ، والتفت فروعه بأصله أتم{[61268]} التفاف ، فاعترفت به أولو-{[61269]} براعة وأهل الإنصاف والاتصاف-{[61270]} بالتقدم في كل صناعة بالسبق الذي لا يمكن لحاقه أيّ اعتراف-{[61271]} . والله الهادي للصواب .
قوله : { نحن أعلم بما يقولون } الله عليم بما يقولونه من تكذيبك وإيذائك بالشتم والافتراء والتقوّل والتخريص .
قوله : { وما أنت عليهم بجبار } أي لست يا محمد بمتسلط على الناس فتحملهم على الدخول في الإسلام حملا أو تقسرهم على ذلك قسرا . فلست إلا منذرا فتبلغهم دعوة الحق وتبين لهم ما أنزل إليهم من ربهم وتحذرهم الكفر والعصيان وسوء المصير .
قوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } القرآن أعظم ما أنزل على البشرية من وجوه الذكرى . بل إنه أكبر ما حواه الوجود من صور التذكير للإنسان . ذلك أن القرآن بأسلوبه الخاص وبنظمه الكريم المعجز ، وكلماته الموحية النفاذة وإيقاعه الشجي العذب وجرسه الخفي الأخاذ وغير ذلك من وجوه الأخبار والترويع والتحذير والترهيب ، كل أولئك ينبغي أن يتذكر به من يخشى الله ويخاف عذابه ليتعظ به ويستقيم{[4325]} .