{ وما كنتم تستترون . . . } أي تقول لهم جوارحهم يوم القيامة حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم في الدنيا تخفون شيئا عنا ، مخافة أن نشهد عليكم بما ترتكبون من الكفر والمعاصي ؛ لأنكم كنتم
غير عالمين بشهادتنا عليكم . بل كنتم تستترون بالحيطان والحجب ؛ لاعتقادكم أنه تعالى لا يعلم خفيات أعمالكم ، وهذا هو الذي أهلككم فأصبحتم في الآخرة من الخاسرين .
{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } أي : وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم ، ولا تحاذرون من ذلك . { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر .
قوله تعالى : { وما كنتم تستترون } أي : تستخفون عند أكثر أهل العلم . وقال مجاهد : تتقون . وقال قتادة : تظنون . { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، أنبأنا سفيان ، أخبرنا منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } . وقيل : الثقفي هو عبد ياليل ، وختناه القرشيان : ربيعة ، وصفوان بن أمية .
{ وما كنتم تستترون } الآيات ، يحتمل أن تكون من كلام الجلود أو من كلام الله تعالى أو الملائكة ، وفي معناه وجهان :
أحدهما : لم تقدروا أن تستتروا من سمعكم وأبصاركم وجلودكم لأنها ملازمة لكم فلم يمكنكم احتراس من ذلك فشهدت عليكم .
والآخر : لم تتحفظوا من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنكم لم تبالوا بشهادتها ولم تظنوا أنها تشهد عليكم ، وإنما استترتم لأنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، وهذا أرجح لاتساق ما بعده معه ولما جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود : أنه قال : اجتمع ثلاثة نفر قرشيان وثقفي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ، فتحدثوا بحديث فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا ، فقال الآخر : إنه يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا ، فقال الآخر : إن كان يسمع منا شيئا فإنه يسمعه كله " فنزلت الآية .
ولما اعتذروا بما إخبارهم به في هذه الدنيا وعظ وتنبيه ، وفي الآخرة توبيخ وتنديم ، قالوا مكررين للوعظ محذرين من جميع الكون : { وما كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { تستترون } أي تتكفلون الستر عند المعاصي وأنتم تتوهمون ، وهو مراد قتادة بقوله ؛ تظنون . { أن يشهد عليكم } بتلك المعاصي . ولما كان المقصود الإبلاغ في الزجر ، أعاد التفصيل فقال : { سمعكم } وأكد بتكرير النافي فقال : { ولا أبصاركم } جمع وأفرد لما مضى { ولا جلودكم ولكن } إنما كان استتاركم لأنكم { ظننتم } بسبب إنكاركم البعث جهلاً منكم { أن الله } الذي له جميع الكمال { لا يعلم } أي في وقت من الأوقات { كثيراً مما تعملون * } أي تجددون عمله مستمرين عليه ، وهو ما كنتم تعدونه خفياً فهذا هو الذي جرأكم على ما فعلتم ، فإن كان هذا ظنكم فهو كفر ، وإلا كان عملكم عمل من يظنه فهو قريب من الكفر والمؤمن حقاً من علم أن الله مطلع على سره وجهره ، فلم يزل مراقباً خائفاً هائباً ، روى الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله { وما كنتم } - الآية ، قال البغوي ؛ قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه ، والقرشيان : ربيعة وصفوان بن أمية .