في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون

هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها . هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله ؛ فلا تضن عليها بشيء ، ولا تحتجز دونها شيئا . . لا الأرواح ولا الأموال ؛ ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور . . وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض . موازينها هي موازين الله ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين . كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه .

وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله . بذل النفس وبذل المال : ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وإن الله بكم لرؤوف رحيم . وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ، ولله ميراث السماوات والأرض . لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . وكلا وعد الله الحسنى . والله بما تعملون خبير ) .

وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .

وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق ؛ وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة ، والسباق إلى القيمة الباقية : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) . .

وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة .

فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية ، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم ، في خلوص نادر ، وتجرد كامل ، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله . . .

إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة ، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوى الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عندما ظهر الإسلام ، ودخل فيه الناس أفواجا ، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة ، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله .

هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله ؛ وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال ؛ وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها ؛ فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها .

وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها ، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب ، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى ، التي تصغر معها كل قيم الأرض ، وتذوب في حرارتها كل عوائقها !

كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين ، مختلطة غير متميزة . وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام ، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء ؛ مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن . وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم : ألم نكن معكم ? قالوا بلى ! ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم . وبئس المصير ) . .

وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى . والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان ؛ كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) . . وهي إشارة إلى اليهود خاصة في الغالب . . وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .

ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب ؛ وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها - والتي توجد في كل مجتمع إسلامي - على نسق مؤثر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكية ، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر !

وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير ؛ تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه . فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح : ( سبح لله ما في السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ) . .

وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزا . ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش ، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه ، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال . ولكن سياق السورة تضمن كثيرا من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى . كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) . . وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار .

كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد . . كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر ، وهي في طريقها إلى الله . فلا تطير جزعا ، ولا تبطر فرحا ، وهي تواجه الضراء والسراء . ولا تشرك بالله سببا ولا ظرفا ولا حادثا . فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم . ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله .

وقد سار سياق السورة في علاج موضوعها في شوطين اثنين أثبتنا أولهما في صدر هذا التقديم . وجاءت فقرات كثيرة من الشوط الثاني في خلاله . وهما مترابطان مطردان . فنكتفي بهذا القدر ، لنسير مع سياق السورة بالتفصيل .

( سبح لله ما في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور . . )

هذا المطلع الموحي المختار . وما حشد فيه من خصائص الألوهية الفاعلة المؤثرة المبدعة لكل شيء ، المحيطة بكل شيء ، المهيمنة على كل شيء ، العليمة بكل شيء . وما تعرضه من إبداع اليد القادرة وهي تجول في محيط السماوات والأرض ، وتتلطف إلى خبايا الصدور وطوايا القلوب ، وتشرف من عل على الوجود وما فيه ومن فيه . .

هذا المطلع الموحي المختار يتناول القلوب ، فيهزها هزا ، ويأخذها أخذا ، وهو يجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله ، ولا ترى إلا الله ، ولا تحس بغير الله ، ولا تعلم لها مهربا من قدرته ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعا إلا إليه ، ولا متوجها إلا لوجهه الكريم :

( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) . .

هكذا ينطلق النص القرآني الكريم في مفتتح السورة ؛ فتتجاوب أرجاء الوجود كله بالتسبيح لله . ويهينم كل شيء في السماوات والأرض ، فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء . ولا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله . فالله يقول . ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه . . ( سبح لله ما في السماوات والأرض )تعني سبح لله ما في السماوات والأرض . . ولا تأويل ولا تعديل ! ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح ، يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة ، كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها ، واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها . .

وقد جاء في القرآن الكريم : ( يا جبال أوبي معه والطير ) . . فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود ! وجاء في الأثر : أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت . إني لأعرفه الآن " . . وروى الترمذي - بإسناده - عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال : كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول : " السلام عليك يا رسول الله " . . وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال : " خطب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى لزق جذع . فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة ، فنزل الرسول فمسحه ، فسكن " . .

وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . . ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) . . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن . فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولا من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود .

( وهو العزيز الحكيم ) . . فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة . فهو المهيمن على كل شيء بقوته ، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، وآياتها تسع وعشرون

بسم الله الرحمان الرحيم

{ سبح لله ما في السموات والأرض } نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم . فتنزيه الملائكة والمؤمنين من الثقلين بلسان المقال ، وتنزيه باقي الخلق بلسان الحال ؛ بمعنى دلالتها على وجوده وتنزيهه . فإن كل الموجودان دالة بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم ، المتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص . خاضعة لسلطانه وتصرفه ؛ وهو المراد من قوله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " {[348]} ؛ من سبح في الأرض والماء يسبح : ذهب وأبعد فيهما ، واللام للتأكيد ؛ كما في شكرت له . وعبر هنا وفي الحشر والصف بالماضي ، وفي الجمعة والتغابن بالمضارع ، وفي الأعلى بالأمر ، وفي الإسراء بالمصدر ؛ استيفاء للجهات المشهورة لهذه المادة ، وإعلاما بتحقق تسبيح الكائنات لخالقها في جميع الأوقات .


[348]:آية 44 الإسراء.
 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون ، نزلت بعد سورة الزلزلة . وهي من السور المدنية التي تعنى بالتشريع وتهذيب الأخلاق والتربية ، وبناء مجتمع إسلامي جديد على أساس العقيدة الصافية ، والخلق الكريم ، والتشريع الإسلامي البناء ، حتى يهيئ الله المؤمنين لحمل هذا الدين ، وإبلاغه للناس أجمعين . وقد سميت سورة الحديد لقوله تعالى : { وأنزلنا الحديدَ فيه بأس شديد ومنافع للناس } . وقد جاء اكتشافه انقلابا كبيرا في مصير الحضارة ، فمن الحديد تُصنع السيوف والرماح والدروع وكانت في ذلك العصر هي آلات الحرب ، واليوم تصنع منه الدبّابات والغواصات والبواخر والمدافع ، وجميع آلات الحرب ووسائل النقل والبناء .

وقد تناولت السورة مواضيع عديدة أوّلها وأهمها أن يكون الكون كله لله ، وبدأت بالإخبار أن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل من في السموات والأرض ، وأنه هو المتصرف بهذا الكون العجيب كما يشاء .

والثاني : أنها بعد أن أمرت بالإيمان بالله حضّت على الإنفاق في سبيل الله والتضحية بالأموال والأنفس لإعزاز دين الله ، وأظهرت صورة المؤمنين يسعى نورهم أمامهم وحولهم ، وصورة المنافقين يلتمسون الانتظار من المؤمنين ، ليقتبسوا من نورهم . وقد ضُرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قِبَله العذاب .

والأمر الثالث : تصوير حقيقة الدنيا وما فيها من بَهْرَج خادع ، ونعيم زائل ، حتى لا يغتر بها الإنسان . وتضرب السورة الأمثال على هوان الدنيا وما حوته من متاع ، وعظم الآخرة وما فيها من نعيم للمؤمنين وعذاب للكافرين والمنافقين . وقد ظهرت هذه الفئة بالمدينة وكان لها خطر كبير على المؤمنين ، لكن الله نَصَر المؤمنين عليهم بإيمانهم وثباتهم وبذلهم وتضحيتهم .

وفي السورة الكريمة دعوة للمؤمنين إلى التنافس والتسابق نحو الدار الآخرة ونيل الرضوان من الله ، وذلك في قوله تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } . وتخلل السورة ذكر بعض الأنبياء ، وإنزال الحديد .

ثم ختمت السورة بدعوة المؤمنين إلى تقوى الله ، والإيمان برسوله ، ووعد الله لهم بمضاعفة الرحمة ، والحظوة بالفضل الذي لا يقدر أحد على شيء منه غيره { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } صدق الله العظيم .

سبّح لله : نزّهه عن كل ما لا يليق به .

العزيز : الذي لا ينازعه في ملكه شيء .

الحكيم : الذي يفعل أفعاله وَفْقَ الحكمة والصواب .

بُدئت هذه السورة الكريمة بالتسبيح ، وكذلك بدئت بعدها أربع سور مدنية ، هي : الحشر والصف و الجمعة و التغابن . وأيُّ تسبيح ! إن كل ما في الوجود يسبّح لله . وما هو هذا التسبيح ؟ . يقول علماء المادة اليوم : « إن التسبيح ها هنا

لا يقتصر على كون الذرّات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعَها اللهُ فيها ، فهي بهذا تسبّحُ بحمد الله سبحانه ، فهناك ما هو أبعدُ من هذا وأقرب إلى مفهوم التسبيح الحيّ والتقديس الواعي . إن هذه الموجودات المادية تملك أرواحاً ، وهي تمارس تسبيحَها وتقديسها بالروح ، وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيّته ، كما يقول تعالى في سورة الإسراء 44 : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } حقا إن إدراك الطرائق التي تعمل بها الذراتُ والأجسام لَمِمّا يصعُب تحقيقه ، ومهما تقدّم العلم وخطا خطواتهِ العملاقة ، فسيظلُّ جانبٌ من أكثر جوانب التركيب الماديّ أهميةً بعيداً عن الكشف النهائي ، مستعصياً على البَوْح بالسِّر المكنون » .

إن عصر الإنكار الكلّي لحقائقَ علميةٍ معينة قد انتهى ، وحلَّ محلّه اعتقادٌ سائد أخَذَ يتسع شيئاً فشيئا ، في أن ميدانَ العِلم لا يشهَدُ تغيراتٍ فحسب ، بل طَفَراتٍ وثورات .

إن نتائج فلسفيةً هامة ستتمخّض حقاً عن هذا التغير ، والفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارقٌ للطبيعة سوف يتناقص . . الفرقُ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة ، والحضور والغيْب ، والمادة والروح ، والقدَر والحرّية ، وستلتقي معطياتُ العلم مع حقائق الدين في عناق حار ، لقاءً كثيراً ما حدّثنا عنه القرآنُ الكريم ، كتابُ الله المعجزة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الحديد [ وهي ] مدنية

{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه ، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها ، [ والجوامد ] تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وأنها قانتة لربها ، منقادة لعزته ، قد ظهرت فيها آثار حكمته ، ولهذا قال : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ، في جميع أحوالها ، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها ، وعموم حكمته في خلقه وأمره .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول الجميع ، وهي تسع وعشرون آية

عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول : ( إن فيهن آية أفضل من ألف آية ) يعني بالمسبحات " الحديد " و " الحشر " و " الصف " و " الجمعة " و " التغابن " .

قوله تعالى : " سبح لله ما في السماوات والأرض " أي مجد الله ونزهه عن السوء . وقال ابن عباس : صلى لله " ما في السموات " ممن خلق من الملائكة " والأرض " من شيء فيه روح أولا روح فيه . وقيل : هو تسبيح الدلالة . وأنكر الزجاج هذا وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : " ولكن لا تفقهون تسبيحهم{[14695]} " [ الإسراء : 44 ] وإنما هو تسبيح مقال . واستدل بقوله تعالى : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن{[14696]} " [ الأنبياء : 79 ] فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟ !

قلت : وما ذكره هو الصحيح ، وقد مضى بيانه والقول فيه في " الإسراء{[14697]} " عند قوله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [ الإسراء : 44 ] " وهو العزيز الحكيم " .


[14695]:راجع جـ 10 ص 266.
[14696]:راجع جـ 11 ص 307.
[14697]:راجع جـ 10 ص 266 فما بعد.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

{ سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }

{ سبَّح لله ما في السماوات والأرض } أي نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليباً للأكثر { وهو العزيز } في ملكه { الحكيم } في صنعه .