وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع . ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا . ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير ) . .
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة ، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل ، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها . وهناك أقوال كثيرة في معنى : ( ثم يعودون لما قالوا ) . . نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار . فهذا أقرب ما يناسب السياق . فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله . . ثم التعقيب : ( ذلكم توعظون به ) . . فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف ( والله بما تعملون خبير ) . . خبير بحقيقته ، وخبير بوقوعه ، وخبير بنيتكم فيه .
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب ، وتربية النفوس ، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه .
{ والذين يظاهرون } تفصيل لحكم الظهار شرعا . { ثم يعودون لما قالوا } يرجعون عما قالوا فيريدون الوطء . أو يرجعون لتحليل ما حرموه على أنفسهم بالظهار . { فتحرير رقبة } فعليهم إعتاق رقبة . { من قبل أن يتماسا } أي يستمتع أحدهما بالآخر ، فيحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير . وتفصيل أحكام الظهار في الفقه .
يعودون لِما قالوا : ينقضون ما قالوه ويريدون الرجوع إلى زوجاتهم .
ثم فصّل الله تعالى حكم الظِهار فقال :
{ والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } .
1- كل من استعمل هذا اللفظ ثم أراد الرجوع إلى زوجته فعليه أن يعتق عبداً من قبلِ أن يمسَّ زوجته .
{ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } .
هذا الذي أوجبه اللهُ عليكم من عِتقِ الرقبة عظةٌ لكم وجزاء توعَظون به حتى لا تعودوا لمثله ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
ثم ذكر حكم الظهار فقال { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } في الآية تقديم وتأخير تقديرها والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون أي على المظاهر عتق ورقبة لقوله لامرأته أنت علي كظهر أمي ثم يعود إلى استباحة الوطء ولا تحل له قبل الكفارة وهو قوله { من قبل أن يتماسا } أي يجامعا { ذلكم توعظون به } أي ذلك التغليظ في الكفارة وعظ لكم كي تنزجروا به عن الظهار فلا تظاهروا .
{ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } اختلف الناس في معنى قوله : { ثم يعودون } لما قالوا على ستة أقوال :
الأول : أنه إيقاع الظهار في الإسلام فالمعنى : أنهم كانوا يظاهرون في الجاهلية فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه هذا قول ابن قتيبة فتجب الكفارة عنده بنفس الظهار بخلاف أقوال غيره فإن الكفارة لا تجب إلا بالظهار والعود معا .
الثاني : أن العود هو وطأ الزوجة روي : ذلك عن مالك فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ فإذا وطئ وجبت عليه الكفارة سواء أمسك المرأة أو طلقها أو ماتت .
الثالث : أن العود هو العزم على الوطء ، وروي : هذا أيضا عن مالك فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة سواء أمسك المرأة أو طلقها أو ماتت .
الرابع : أن العود هو العزم على الوطء وعلى إمساك الزوجة وهذا أصح الروايات عن مالك . الخامس : أنه العزم على الإمساك خاصة ، وهذا مذهب الشافعي فإذا ظاهر ولم يطلقها بعد الظهار وجبت الكفارة .
السادس : أنه تكرار الظهار مرة أخرى وهذا مذهب الظاهرية وهو ضعيف لأنهم لا يرون الظهار يوجب حكما في أول مرة وإنما يوجب في الثانية ، وإنما نزلت الآية فيمن ظاهر أول مرة فذلك يرد عليهم ويختلف معنى لما قالوا باختلاف هذه الأقوال فأما على قول ابن قتيبة والظاهرية فما مصدرية ، والمعنى يعودون لقولهم وأما على سائر الأقوال ف{ ما } بمعنى الذي ، والمعنى يعودون للوطء الذي حرموه أو للعزم عليه أو للإمساك الذي تركوه أو للعزم عليه .
ولما هجن{[63077]} سبحانه الظهار ، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده ، وكان ما مضت عليه العوائد لا بد أن يبقى منه بقايا ، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال{[63078]} : { والذين يظاهرون } ولما كان في بيان الحكم ، أسقط التقييد إعلاماً بعمومه الكفار كعمومه{[63079]} المسلم ليفيد تغليظ العقاب عليه{[63080]} لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين {[63081]}قصد تهجينه{[63082]} عليهم بأنهم{[63083]} انفردوا به عن سائر الناس فقال : { من نسائهم } بدون { منكم } .
ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها ، لكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد ، قال مشيراً إلى ذلك بأداة{[63084]} البعد { ثم يعودون } أي بعد هذا القول { لما قالوا } بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أو بالقوة بأن يمسكوا المقول{[63085]} ذلك لها{[63086]} زمناً يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفارقة بلفظ مما ناط الله {[63087]}الفرقة به{[63088]} من طلاق أو{[63089]} سراح{[63090]} أو نحوهما ، فيكون المظاهر عائداً إلى هذا القول بالقوة لإمكان هذا{[63091]} القول في ذلك الزمن ، وذلك لأن العادة قاضية بأن من قال قولاً ولم يبته{[63092]} وينجزه ويمضه بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جراً ، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا : فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق ، فإن كان الظهار معلقاً لم يلزم حكمه إلا بالحنث ، فإن طلق في الحال{[63093]} وإلا لزمته الكفارة{[63094]} ، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها{[63095]} على الاتصال كما يقتضيه الحال بخلاف " إلى " فإنها تدل على مهلة وتراخ ، هذا في الظهار المطلق ، وأما المؤقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائداً فيه إلا بالوطء في الوقت المظاهر فيه ، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما له{[63096]} فيها من الحل بعد وقت الظهار .
ولما كان المبتدأ الموصول مضمناً معنى الشرط ، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال : { فتحرير } أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير { رقبة } أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة أيضاً{[63097]} بمؤمنة لأنها قيدت بذلك{[63098]} في كفارة القتل ، فيحمل هذا على ذاك ، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : " عليّ رقبة أفأعتقها ، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم {[63099]}عن الله{[63100]} فأخبرته بما دل على توحيدها{[63101]} فقال : من أنا ؟ فقالت : أنت رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة " رواه{[63102]} مالك{[63103]} ومسلم{[63104]} ، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب ، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب ، والموجب للكفارة الظهار{[63105]} والعود جميعاً كما أن الموجب في اليمين اليمين{[63106]} والحنث معاً .
ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه ، أدخل الجار فقال : { من قبل } ولما كان المراد المس بعد المظهارة لا مطلقاً قال : { أن يتماسا } أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل ، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه{[63107]} التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه ، وأما مقدمات الجماع فهي{[63108]} فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر ، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى ، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، قال : " كفارة واحدة " {[63109]} .
ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله ، قال مستأنفاً : { ذلكم } أي الزجر العظيم جد الذي هو عام لكم من غير شبهة { توعظون به } أي يكون بمشقة زاجراً لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلاً عن مقارفته لأن من حرم من أحلها الله تحريماً متأبداً{[63110]} على زعمه كان{[63111]} كأنه قد قتلها ، ولكون ذلك{[63112]} بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة {[63113]}أمه كان{[63114]} كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقاً أخرجه إلى أن{[63115]} يقتلها عضواً عضواً بإعتاق رقبة{[63116]} تماثل رقبته ورقبة{[63117]} من كان قتلها .
ولما كان التقدير : فالله بما يردعكم بصير ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة بالكمال ، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء . عن ذلك فقال : { بما تعملون } أي تجددون فعله { خبير * } أي عالم بظاهره وباطنه ، فهو عالم بما يكفره ، فافعلوا ما أمر الله به{[63118]} وقفوا عند حدوده ، قال القشيري : والظهار{[63119]} - وإن لم يكن له في الحقيقة أصل ولا بتصحيحه نطق ولا له شرع ، بعد ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ولوح بشيء ما وقال : إن حكمه لا يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها .