ويتركهم بعد هذا التهديد المرهوب ، ويوجه رسوله الكريم ، إلى قول يقوله لهم . ثم يدعهم من بعده لمصيرهم الذي شهدوا صورته منذ قليل :
( قل : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين . سبحان رب السماوات والأرض . رب العرش عما يصفون . فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) . .
لقد كانوا يعبدون الملائكة بزعم أنهم بنات الله . ولو كان لله ولد لكان أحق أحد بعبادته ، وبمعرفة ذلك ، نبي الله ورسوله ، فهو منه قريب ، وهو أسرع إلى طاعة الله وعبادته ، وتوقير ولده إن كان له ولد كما يزعمون ! ولكنه لا يعبد إلا الله . فهذا في ذاته دليل على أن ما يزعمونه من بنوة أحد لله لا أصل له ، ولا سند ولا دليل ! تنزه الله وتعالى عن ذلك الزعم الغريب !
قوله تعالى : " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " اختلف في معناه ، فقال ابن عباس والحسن والسدي : المعنى ما كان للرحمن ولد ، ف " إن " بمعنى ما ، ويكون الكلام على هذا تاما ، ثم تبتدئ : " فأنا أول العابدين " أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له . والوقف على " العابدين " تام . وقيل : المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده ، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ، وهو كما تقول لمن تناظره : إن ثبت بالدليل فأنا أول من يعتقده ، وهذا مبالغة في الاستبعاد ، أي لا سبيل إلى اعتقاده . وهذا ترقيق في الكلام ، كقوله : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " {[13695]} [ سبأ : 24 ] . والمعنى على هذا : ترقيق في الكلام ، كقول : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " [ سبأ : 24 ] . والمعنى على هذا : فأنا أول العابدين لذلك الولد ، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد . وقال مجاهد : المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده ، على أنه لا ولد له . وقال السدي أيضا : المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده على أن له ولدا ، ولكن لا ينبغي ذلك . قال المهدوي : ف " إن " على هذه الأقوال للشرط ، وهو الأجود ، وهو اختيار الطبري ، لأن كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى . وقيل : إن معنى " العابدين " الآنفين . وقال بعض العلماء : لو كان كذلك لكان العبدين . وكذلك قرأ أبو عبد الرحمن واليماني " فأنا أول العبدين " بغير ألف ، يقال : عبد يعبد عبدا ( بالتحريك ) إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة مثل الأنفة ، عن أبي زيد . قال الفرزدق :
أولئك أجْلاسِي فجئني بمثلهم *** وأعْبَدُ أن أهجو كليبًا بدارم
أولئك ناس إن هجوني هجوتهم *** وأعْبَدُ أن يُهجى كليبٌ بدارمِ
قال الجوهري : وقال أبو عمرو وقوله تعالى : " فأنا أول العابدين " من الأنف والغضب ، وقاله الكسائي والقتبي ، حكاه الماوردي عنهما . وقال الهروي : وقوله تعالى : " فأنا أول العابدين " قيل هو من عبد يعبد ، أي من الآنفين . وقال ابن عرفة : إنما يقال عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال عابد ، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له .
وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر ، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها ، فقال له علي : قال الله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " [ الأحقاف :15 ] وقال في آية أخرى : " وفصاله في عامين " [ لقمان : 14 ] فوالله ما عَبِد عثمان أن بعث إليها تُرَدُّ . قال عبد الله بن وهب : يعني ما استنكف ولا أنف . وقال ابن الأعرابي " فأنا أول العابدين " أي الغضاب الآنفين وقيل : " فأنا أول العابدين " أي أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم . أبو عبيدة : معناه الجاحدين ، وحكى : عبدني حقي أي جحدني . وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ولد " بضم الواو وإسكان اللام . الباقون وعاصم " ولد " وقد تقدم{[13696]} .
قوله تعالى : { قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين 81 سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون 82 فذرهم يخوضوا ويلعبون حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون 83 وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم 84 وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون 85 ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون 86 ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون 87 وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون 88 فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . نزه الله نفسه عن اتخاذ الشركاء ، فهو الإله الأحد المقتدر ، خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق وعجائب وكائنات ، فهو سبحانه مستغن عن الشريك أو الولد ، فإنه لا يحتاج لشيء من ذلك إلا من كان يعوزه الإيناس من الوحشة ، أو العون من الضعف . والله عز وعلا منزه عن هاتيك النقائص . قال سبحانه { قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين } { إن } ، شرطية . والتقدير : إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده ، على أنه لاولد له . وقيل : تقديره : إن كان للرحمان من ولد فأنا أول الآنفين من العبادة . وقيل : { إن } ، بمعنى ما النافية . أي ما كان للرحمان من ولد . وكونها شرطية أظهر وأولى بالصواب{[4158]} .
وإيراد هذا الكلام لهو على سبيل الفرض والتمثيل لغرض المبالغة في نفي الولد . والمعنى : لو صح أن للرحمان ولدا فأنا أول من يعظم هذا الولد وأسبقكم على طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.