( ولقد خلقنا الإنسان ، ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) . .
إن ابتداء الآية : ( ولقد خلقنا الإنسان ) . . يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة . فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها . وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشيء مادتها ، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها . فكيف بالمنشئ الموجد الخالق ? إن الإنسان خارج من يد الله أصلا ؛ فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره . .
( ونعلم ما توسوس به نفسه ) . . وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر ، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله ، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده !
( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) . . الوريد الذي يجري فيه دمه . وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة ، والرقابة المباشرة . وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب . ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها . بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول . وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة .
{ ما توسوس به نفسه } أي ما تحدثه به وتخطره بباله . والوسوسة : الصوت الخفي . { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } أي ونحن بعلمنا به وبأحواله كلها أقرب إليه من أقرب شيء إليه ، وهو عرق الوريد الذي في باطن عنقه . وهو مثل في فرط القرب . والحبل : العرق فالمراد القرب بالعلم لا القرب في المكان لاستحالتة عليه تعالى .
الوسوسة : حديث النفس ، وما يخطر بالبال .
حبل الوريد : عِرق كبير في العنق .
ثم ذكر الله تعالى دليلاً آخر على إمكانه وقدرته ، وهو علمُه بما في صدور الناس جميعا :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ }
فلا يخفى علينا شيءٌ من أمرِ البشر .
ثم بين أكثر من ذلك بقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد }
ونحن لعلمِنا بأحواله كلها أقربُ إليه من عِرق الوريد ، الذي هو في جسده ذاته .
أخرج ابنُ مردويه عن أبي سعيد الخدريّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «نزل اللهُ في ابن آدم أربع منازل : هو أقربُ إليه من حبل الوريد ، وهو يحُول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصيةِ كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا » .
قوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان " يعني الناس ، وقيل آدم . " ونعلم ما توسوس به نفسه " أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره ، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها . ومن قال : إن المراد بالإنسان آدم ، فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة ، ثم هو عام لولده . والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي . قال الأعشى :
تَسمَعُ للحَلْيِ وسواسًا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عِشْرِقٌ زَجِلُ{[14156]}
وقد مضى في " الأعراف " {[14157]} . " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان عن يمين وشمال . روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة . والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين . وقال الحسن : الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب . وهذا تمثيل للقرب ، أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه ، وليس على وجه قرب المسافة . وقيل : أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه . وقيل : أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه ؛ لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب ، روي معناه عن مقاتل قال : الوريد عرق يخالط القلب ، وهذا القرب قرب العلم والقدرة ، وأبعاض الإنسان يحجب البعضُ البعضَ ولا يحجب علم الله شيء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.