( ولم يكن له كفوا أحد ) . . أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ . لا في حقيقة الوجود ، ولا في حقيقة الفاعلية ، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية . وهذا كذلك يتحقق بأنه( أحد ) ولكن هذا توكيد وتفصيل . . وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلها يعاكس الله - بزعمهم - ويعكس عليه أعماله الخيرة وينشر الفساد في الأرض . وأشهر العقائد الثنائية كانت عقيدة الفرس في إله النور وإله الظلام ، وكانت معروفة في جنوبي الجزيرة العربية حيث للفرس دولة وسلطان ! !
هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورة " الكافرون " نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك . . وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه . وقد كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يستفتح يومه - في صلاة سنة الفجر - بالقراءة بهاتين السورتين . . وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه . .
{ ولم يكن له كفؤا أحد } لم يكن أحد من خلقه مكافئا ولا مشاكلا ولا نظيرا ، ولا شبيها له في ذاته وصفاته وأفعاله ؛ { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . وفي الحديث الصحيح : ( أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ) . ومعناه على ما ذكره الإمام ابن شريح : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .
وليس له نِدٌّ ولا مماثِل ، ولا شَبيه . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . فهذه السورةُ الكريمة إثباتٌ وتقريرٌ لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورةَ «الكافرون » نفيٌ لأيّ تشابُهٍ أو التقاء بين عقيدةِ التوحيد وعقيدةِ الشِرك .
وقد سُئل أعرابي ماذا يحفظ من القرآن فقال : أحفَظ هِجاءَ أبي لَهَبٍ { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ . . . } [ المسد : 1 ] ، وصِفَةَ الربّ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } .
قوله تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } ، أي لم يكن له مثلا أحد . وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولم يكن له كفوا أحد ، فقدم خبر كان على اسمها ، لينساق ، أو آخر الآي على نظم واحد . وقرئ " كفوا " بضم الفاء وسكونها ، وقد تقدم في " البقرة " أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان{[16573]} ، إلا قوله تعالى : { وجعلوا له من عباده جزءا }{[16574]} [ الزخرف :15 ] لعلة تقدمت . وقرأ حفص " كفوا " مضموم الفاء غير مهموز . وكلها لغات فصيحة .
القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة ، وفيه ثلاث مسائل :
الأولى : ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا سمع رجلا يقرأ { قل هو الله أحد } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، وكان الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن " .
وعنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة " ؟ فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : " الله الواحد{[1]} الصمد ثلث القرآن " ، خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه .
وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احشدوا{[2]} ، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن " ، فحشد{[3]} من حشد ، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { قل هو الله أحد } ، ثم دخل ، فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء ، فذاك الذي أدخله . ثم خرج فقال : " إني قلت لكم : سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ألا إنها تعدل ثلث القرآن " .
قال بعض العلماء : إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم الذي هو " الصمد " ، فإنه لا يوجد في غيرها من السور . وكذلك " أحد " . وقيل : إن القرآن أنزل أثلاثا ، ثلثا منه أحكام ، وثلثا منه وعد ووعيد ، وثلثا منه أسماء وصفات ، وقد جمعت { قل هو الله أحد{[4]} } أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات . ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم ، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل { قل هو الله أحد } جزءا من أجزاء القرآن " . وهذا نص ، وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص ، والله أعلم .
الثانية : روى مسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم { بقل هو الله أحد } ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " سلوه لأي شيء يصنع ذلك " ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأ بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أخبروه أن الله عز وجل يحبه } .
وروى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، وكان كلما افتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها ، افتتح ب{ قل هو الله أحد } ، حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ بسورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمه أصحابه ، فقالوا : إنك تقرأ بهذه السورة ، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى ، فإما أن تقرأ بها ، وإما أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى ؟ قال : ما أنا بتاركها ، وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت ، وإن كرهتم تركتكم ، وكانوا يرونه أفضلهم ، وكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : " يا فلان ، ما يمنعك مما يأمر به أصحابك ؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة " ؟ فقال : يا رسول الله ، إني أحبها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن حبها أدخلك الجنة " . قال : حديث حسن غريب صحيح .
قال ابن العربي : فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة . وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه ، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما ، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك ، فيقرأ في كل ركعة " الحمد لله " و " قل هو الله أحد " حتى يتم التراويح ؛ تخفيفا عليه ، ورغبة في فضلها ، وليس من السنة ختم القرآن في رمضان .
قلت : هذا نص قول مالك ، قال مالك : وليس ختم القرآن في المساجد بسنة .
الثالثة : روى الترمذي عن أنس{[5]} بن مالك قال : أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع رجلا يقرأ { قل هو الله أحد } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وجبت " . قلت : وما وجبت ؟ قال : " الجنة " . قال : هذا حديث حسن صحيح{[6]} .
قال الترمذي : حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال : حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ كل يوم مائتي مرة { ل هو الله أحد } محي عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين " .
وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أراد أن ينام على فراشه ، فنام على يمينه ، ثم قرأ { قل هو الله أحد } مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب : يا عبدي ، ادخل على يمينك الجنة " . قال : هذا حديث غريب من حديث ثابت عن أنس .
وفي مسند أبي محمد الدارمي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { قل هو الله أحد } خمسين مرة ، غفرت له ذنوب خمسين سنة "
قال : وحدثنا عبد الله بن يزيد قال : حدثنا حيوة قال : أخبرني أبو عقيل ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ { قل هو الله أحد } عشر مرات بني له قصر في الجنة . ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنة . ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة " . فقال عمر بن الخطاب : والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أوسع من ذلك " . قال أبو محمد : أبو عقيل زهرة بن معبد ، وزعموا أنه كان من الأبدال .
وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { قل هو الله أحد } في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره ، وأمن من ضغطة القبر ، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها ، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة " . قال : هذا حديث غريب من حديث يزيد ، تفرد به نصر بن حماد البجلي .
وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال : سمعت مالك بن أنس يقول : إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن ، فتنزل الملائكة ، فيأخذون بأقطار الأرض ، فلا يزالون يقرؤون { قل هو الله أحد } حتى يسكن غضبه جل وعز .
وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دخل يوم الجمعة المسجد ، فصلى أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و{ قل هو الله أحد } خمسين مرة ، فذلك مائتا مرة في أربع ركعات ، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له " .
وقال أبو عمر مولى جرير بن عبد الله البجلي ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { قل هو الله أحد } حين يدخل منزله ، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران " .
وعن أنسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { قل هو الله أحد } مرة بورك عليه ، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله ، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه ، ومن قرأها اثنتي عشرة بنى الله له اثني عشر قصرا في الجنة ، وتقول الحفظة : انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا ، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة ، ما خلا الدماء والأموال ، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة ، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له " .
وعن سهل بن سعد الساعدي قال : شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد ، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي ، واقرأ { قل هو الله أحد } مرة واحدة " ، ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق ، حتى أفاض عليه جيرانه .
وقال أنس : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك ، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور ، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك ، فأتى جبريل ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط ) ؟ فقال : ( ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم ، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه ) . قال " ومم ذلك " ؟ قال : ( كان يكثر قراءة { قل هو الله أحد } آناء الليل وآناء النهار ، وفي ممشاه وقيامه وقعوده ، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض . فتصلي عليه ) ؟ قال [ نعم ] ، فصلى عليه ثم رجع . ذكره الثعلبي ، والله أعلم .