{ ولم يكن له كفؤا أحد } أي ولم يكن أحد يكافئه ، أي يماثله من صاحبة أو غيرها ، وقال الإمام : الكفؤ معناه المكافىء والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الإشراك ، وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه . وقال ابن جرير :{[7588]} الكفؤ والكفىء والكفاء في كلام العرب واحد ، وهو المثل والشبه .
وقرىء { كفؤا } بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واوا ، وقرئ بتسكين الفاء وهمزها ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان .
و { له } صلة ل { كفؤا } ، قدمت عليه مع أن حقها التأخر عنه للاهتمام بها ؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى ، وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل .
الأولى : قال الشهاب : فإن قلت المأمور ب { قل } من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده ، فلم كانت { قل } من المتلو فيه ، وفي نظائره في القراءة ؟ قلت : المأمور به سواء كان معينا أم لا ، مأمور بالإقرار بالمقول ، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ، ولزوم الإقرار به على مر الدهور .
الثانية : قال الإمام ابن تيمية : احتج بقول تعالى { الله الصمد } من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب تعالى جسم ، كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما ، قالوا : هو صمد ، والصمد الذي لا جوف له ، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة ، فإنها لا جوف لها كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة ، ولهذه قيل في تفسيره : إنه الذي لا يخرج منه شيء ، ولا يدخل فيه شيء ، ولا يأكل ولا يشرب ، ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم ، وقالوا : أصل الصمد الاجتماع ، ومنه تصميد المال ، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع ، وأما النفاة فقالوا : الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام ، وقالوا أيضا : الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام ، وقالوا : إذا قلتم : هو جسم كان مركبا مؤلفا من الجواهر الفردة ، أو من المادة والصورة ، وما كان مركبا مؤلفا من غيره كان مفتقرا إليه ، وهو سبحانه صمد ، والصمد الغني عما سواه ، فالمركب لا يكون صمدا . انتهى .
وقال الرازي : قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل ؛ لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي كونه جسما ، فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة ، وتعالى الله عن ذلك ، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير ، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته ، انتهى .
وأقول : الصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولا ، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه ، وإذا تحقق هذا فلا يعول على هذا الثاني ، ولا لوازمه .
الثالثة : قال ابن تيمية : كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له ، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله ، وهذه السورة دلت على النوعين ، فقوله : { أحد } من قوله و { لم يكن له كفؤا أحد } ينفي المماثلة والمشاركة ، وقوله { صمد } يتضمن جميع صفات الكمال ، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى ، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها ، بخلاف ما يوصف به الرب ، ويوصف العبد ، بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ، فإن هذه ليست نقائص ؛ بل ما ثبت لله من هذه المعاني فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات ، فضلا عن أن يماثله فيه ؛ بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا ، وإن اتفقا في الاسم ، وكلاهما مخلوق ، فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق ، وقد سمى الله نفسه عليما حليما رؤوفا رحيما سميعا بصيرا عزيزا ملكا جبارا متكبرا ، وسمى أيضا بهذه الأسماء ، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء .
الرابعة : قدمنا ما ورد في الحديث من أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن .
وقد ذكروا في ذلك وجوها منها ما قاله أبو العباس بن سريج أن القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .
وقال الغزالي في ( جواهر القرآن ) : مهمات القرآن هي معرفة الله ، ومعرفة الآخرة ، ومعرفة الصراط المستقيم ، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة ، والباقي توابع ، وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث ، وهي معرفة الله وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع ، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ .
قال : والوصف بالصمد يشعر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه ، نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم ، فلذلك تعدل ثلث القرآن ، أي ثلث الأصول من القرآن ، كما قال : " الحج عرفة " ، أي هو الأصل ، والباقي تبع .
وقال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون ، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ، فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحديه المنافية لمطلق الشركة ، بوجه من الوجوه ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد الذي هو من لازم الصمدية وغناء وأحديته ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ، ونفي مطلق الشريك ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء . والإنشاء ثلاثة : أمر ونهي وإباحة ، والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه ، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته ، فعدلت ثلث القرآن ، وخلصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي كما خلصت سورة { قل يا أيها الكافرون } من الشرك العملي الإرادي القصدي/ ولما كان العلم قبل العمل ، وهو إمامه وقائده وسائقه ، والحاكم عليه ، ومنزله منازله ، كانت سورة { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر ، و { قل يا أيها الكافرون } تعدل نصف القرآن ، و { قل هو الله احد } تعدل ثلث القرآن ، و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن ، رواه الحاكم في ( المستدرك ) وقال : صحيح الإسناد .
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس ؛ لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة القصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره ؛ لأجل غلبة هواه ، واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه ، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة { فل يا أيها الكافرون } المتضمنة لإزالة الشرك العملي ما لم يجىء مثله في سورة { قل هو الله أحد } .
ولما كان القرآن شطرين : شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطرا في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة { إذا زلزلت } قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة ، وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن ، فأحر بهذا الحديث أن يكون صحيحا ، والله أعلم .
الخامسة : قال ابن تيمية سورة { قل هو الله أحد } أكثرهم على أنها مكية ، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة ، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة ، ولا منافاة ، فإن الله أنزلها بمكة أولا ، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى ، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء ، وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك ، فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقا ، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب ، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك ، انتهى .
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أخر منه تحقيق البحث في معنى سبب النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا فراجعه ، ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة ، من أمثلتها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية أحدهما في تفسيرها ، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن ، فاحتفظ بهما ، والله الهادي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.