محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ} (4)

{ ولم يكن له كفؤا أحد } أي ولم يكن أحد يكافئه ، أي يماثله من صاحبة أو غيرها ، وقال الإمام : الكفؤ معناه المكافىء والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الإشراك ، وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه . وقال ابن جرير :{[7588]} الكفؤ والكفىء والكفاء في كلام العرب واحد ، وهو المثل والشبه .

وقرىء { كفؤا } بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واوا ، وقرئ بتسكين الفاء وهمزها ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان .

و { له } صلة ل { كفؤا } ، قدمت عليه مع أن حقها التأخر عنه للاهتمام بها ؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى ، وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل .

ختام السورة:

فوائد من هذه السورة

الأولى : قال الشهاب : فإن قلت المأمور ب { قل } من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده ، فلم كانت { قل } من المتلو فيه ، وفي نظائره في القراءة ؟ قلت : المأمور به سواء كان معينا أم لا ، مأمور بالإقرار بالمقول ، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ، ولزوم الإقرار به على مر الدهور .

الثانية : قال الإمام ابن تيمية : احتج بقول تعالى { الله الصمد } من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب تعالى جسم ، كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما ، قالوا : هو صمد ، والصمد الذي لا جوف له ، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة ، فإنها لا جوف لها كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة ، ولهذه قيل في تفسيره : إنه الذي لا يخرج منه شيء ، ولا يدخل فيه شيء ، ولا يأكل ولا يشرب ، ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم ، وقالوا : أصل الصمد الاجتماع ، ومنه تصميد المال ، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع ، وأما النفاة فقالوا : الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام ، وقالوا أيضا : الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام ، وقالوا : إذا قلتم : هو جسم كان مركبا مؤلفا من الجواهر الفردة ، أو من المادة والصورة ، وما كان مركبا مؤلفا من غيره كان مفتقرا إليه ، وهو سبحانه صمد ، والصمد الغني عما سواه ، فالمركب لا يكون صمدا . انتهى .

وقال الرازي : قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل ؛ لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي كونه جسما ، فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة ، وتعالى الله عن ذلك ، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير ، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته ، انتهى .

وأقول : الصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولا ، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه ، وإذا تحقق هذا فلا يعول على هذا الثاني ، ولا لوازمه .

الثالثة : قال ابن تيمية : كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له ، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله ، وهذه السورة دلت على النوعين ، فقوله : { أحد } من قوله و { لم يكن له كفؤا أحد } ينفي المماثلة والمشاركة ، وقوله { صمد } يتضمن جميع صفات الكمال ، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى ، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها ، بخلاف ما يوصف به الرب ، ويوصف العبد ، بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ، فإن هذه ليست نقائص ؛ بل ما ثبت لله من هذه المعاني فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات ، فضلا عن أن يماثله فيه ؛ بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا ، وإن اتفقا في الاسم ، وكلاهما مخلوق ، فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق ، وقد سمى الله نفسه عليما حليما رؤوفا رحيما سميعا بصيرا عزيزا ملكا جبارا متكبرا ، وسمى أيضا بهذه الأسماء ، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء .

الرابعة : قدمنا ما ورد في الحديث من أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن .

وقد ذكروا في ذلك وجوها منها ما قاله أبو العباس بن سريج أن القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .

وقال الغزالي في ( جواهر القرآن ) : مهمات القرآن هي معرفة الله ، ومعرفة الآخرة ، ومعرفة الصراط المستقيم ، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة ، والباقي توابع ، وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث ، وهي معرفة الله وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع ، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ .

قال : والوصف بالصمد يشعر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه ، نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم ، فلذلك تعدل ثلث القرآن ، أي ثلث الأصول من القرآن ، كما قال : " الحج عرفة " ، أي هو الأصل ، والباقي تبع .

وقال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون ، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ، فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحديه المنافية لمطلق الشركة ، بوجه من الوجوه ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد الذي هو من لازم الصمدية وغناء وأحديته ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ، ونفي مطلق الشريك ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء . والإنشاء ثلاثة : أمر ونهي وإباحة ، والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه ، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته ، فعدلت ثلث القرآن ، وخلصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي كما خلصت سورة { قل يا أيها الكافرون } من الشرك العملي الإرادي القصدي/ ولما كان العلم قبل العمل ، وهو إمامه وقائده وسائقه ، والحاكم عليه ، ومنزله منازله ، كانت سورة { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر ، و { قل يا أيها الكافرون } تعدل نصف القرآن ، و { قل هو الله احد } تعدل ثلث القرآن ، و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن ، رواه الحاكم في ( المستدرك ) وقال : صحيح الإسناد .

ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس ؛ لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة القصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره ؛ لأجل غلبة هواه ، واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه ، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة { فل يا أيها الكافرون } المتضمنة لإزالة الشرك العملي ما لم يجىء مثله في سورة { قل هو الله أحد } .

ولما كان القرآن شطرين : شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطرا في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة { إذا زلزلت } قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة ، وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن ، فأحر بهذا الحديث أن يكون صحيحا ، والله أعلم .

الخامسة : قال ابن تيمية سورة { قل هو الله أحد } أكثرهم على أنها مكية ، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة ، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة ، ولا منافاة ، فإن الله أنزلها بمكة أولا ، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى ، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء ، وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك ، فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقا ، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب ، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك ، انتهى .

وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أخر منه تحقيق البحث في معنى سبب النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا فراجعه ، ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة ، من أمثلتها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية أحدهما في تفسيرها ، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن ، فاحتفظ بهما ، والله الهادي .


[7588]:انظر الصفحة رقم 348 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).