اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ} (4)

{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فقدم خبر كان على اسمها ، لينساق أواخر الآي على نظم واحدٍ{[61116]} .

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب{[61117]} : دل العقل على استحالة كونه تعالى ولداً ووالداً ، والأحديَّةُ والصَّمديَّةُ يوجبان نفي كونه تعالى والداً ، أو مولوداً ، وذكر بعدهما كما ذكر النتيجة بعد الدليل .

قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } . في نصب «كُفُواً » وجهان :

أحدهما : أنه خبر «يَكُونُ » ، و «أحَدٌ » اسمها ، و «لهُ » متعلق بالخبر ، أي : ولم يكن كفواً له كما تقدم ، وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية من حيث إنه يزعم أنه إذا تقدم الظَّرف كان هو الخبر ، وهنا لم يجعله خبراً مع تقدمه .

وقد رد على المبرِّد بوجهين :

أحدهما : أن سيبويه لم يحتم ذلك بل جوزه .

والثاني : أنا لا نسلم أنَّ الظرف هنا ليس بخبر ؛ بل هو خبر ، ونصب «كُفواً » على الحال ، على ما سيأتي بيانه .

وقال الزمخشري{[61118]} : الكلام العربي الفصيح ، أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه في كتابه على ذلك ، فما باله مقدماً في أفصح كلام وأعربه ؟

قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه ، وهذا المعنى مصبُّه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقديم وأحراه .

والثاني : أن ينصب على الحال من «أحدٌ » ؛ لأنه كان صفة ، فلما تقدم عليه نصب حالاً ، و «له » هو الخبر . قاله مكي ، وأبو البقاء{[61119]} ، وغيرهما .

ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً .

قال أبو حيان بعد أن حكى كلام الزمخشري ومكي{[61120]} : وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجار والمجرور فيه تامَّا ، إنما هو ناقص ، لا يصلح أن يكون خبراً ل «كان » ؛ بل متعلق ب «كُفُواً » ، وتقدم على «كُفُواً » للاهتمام به ؛ إذ فيه ضمير الباري تعالى ، وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخير ؛ لآن تأخير الاسم هو فاصلة ، فحسن ذلك ، وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن «لهُ » الخبر ، و«كُفُواً » حال من «أحَدٌ » ؛ لأنه ظرف ناقص ، ولا يصلح أن يكون خبراً ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه ، وسيبويه إنما تكلم في الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً ، ويصلح أن يكون غير خبر .

قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خير منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت «فيها » مستقراً ، ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم ، ثم أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على قولك : فيها زيد قائم نصبت ، تقول : ما كان فيها أحد خيراً منك ، وما كان أحد خيراً منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن ، وإذا أردت أن يكون مستقراً ، تكتفي به ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير ، قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } .

وقال الشاعر : [ الرجز ]

5357- *** مَا دَامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا{[61121]} ***

انتهى كلام سيبويه .

قال أبو حيَّان{[61122]} : فأنت ترى كلامه ، وتمثيله بالظرف الذي لا يصلح أن يكون خبراً ، ومعنى قوله : «مستقرَّا » أي : خبراً للمبتدأ ، ول «كان » .

فإن قلت : قد مثل بالآية الكريمة .

قلت : هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام ، وهو في قوله : [ الرجز ]

5358- *** مَا دَامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا{[61123]} ***

أجري فضلة ، لا خبراً ، كما أن «لهُ » في الآية أجري فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : «ولم يكن له أحد » ؛ بل لو تأخر «كُفُواًُ » وارتفع على الصفة وجعل «لهُ » خبراً لم ينعقد منه كلام ؛ بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو «كُفُواً » و «لَهُ » متعلق به ، والمعنى : لم يكن أحد مكافئه . انتهى ما قاله ابن حيَّان .

قال شهاب الدين{[61124]} : قوله : «ولا يشك » إلى آخره ، تهويل على الناظر ، وإلا فقوله : «هذا الظرف ناقص » ممنوع ؛ لأن الظرف الناقص عبارة عما لم يكن في الإخبار به فائدة كالمقطوع عن الإضافة ونحوه ، وقد نقل سيبويه الأمثلة المتقدمة ، نحو : «ما كان فيها أحد خيراً منك » ، وما الفرق بين هذا ، وبين الآية الكريمة ، وكيف يقول هذا ، وقد قال سيبويه في آخر كلامه : «والتقديم ، والتأخير ، والإلغاء ، والاستقرار عربي جيد كثير » .

فصل

قرأ العامة : «كُفُواً » بضم الكاف والفاء ، وقد سهل الهمزة الأعرج{[61125]} ونافع في رواية ، وسكن الفاء حمزة ، وأبدل الهمزة واواً وقفاً خاصة ، وأبدلها حفص واواً مطلقاً ، والباقون بالهمزة مطلقاً .

قال القرطبي : وتقدم في البقرة أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان إلا قوله تعالى «أتتّخذنا هزواً »{[61126]} .

وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس{[61127]} رضي الله عنهم «كفاء » بالكسر والمد ، أي لا مثل له ، وأنشد للنابغة : [ البسيط ]

5359- لاَ تَقْذفنِّي برُكنٍ لا كِفاءَ لَهُ*** . . .

وقرأ نافع في رواية : كِفَا بالكسر وفتح الفاء من غير مد ، كأنه نقل حركة الهمزة وحذفها .

والكفو النظير ، كقوله : هذا كفؤ لك : أي نظيرك ، والاسم الكفاءة بالفتح .

قال ابن الخطيب{[61128]} : والتحقيق أنه تعالى لما أثبت الأحديَّة ، والصمديّة ، ونفى الوالدية ، والمولودية ختم السورة بأن شيئاً من الموجودات يمتنع أن يساويه في شيء من صفات الجلال والعظمة لانفراده سبحانه ، وتعالى بوجوب الوجود لذاته .

فصل

روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَقُول الله تعالى : كذَّبنِي ابنُ آدمَ ولمْ يكُنْ لهُ ذلِكَ ، وشَتمنِي ولمْ يكُنْ لهُ ذلِكَ ، فأما تَكْذيبهُ فقوله : لن يُعِيدنِي كَمَا بَدأنِي ، وليْسَ بأوَّل الخَلقِ ، وليس بأهْونَ عليَّ مِنْ إعَادَتِهِ ، وأمَّا شتمهُ إيَّاي ، فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحدُ الصَّمَدُ ، لم ألدْ ولم أولَدْ ، ولم يكن لي كفواً أحد »{[61129]} .

ختام السورة:

فصل في فضائل هذه السورة

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والَّذي نَفْسِي بيدهِ ، إنَّها لتعْدِلُ ثُلثَ القُرآنِ »{[1]} ؛ لأن القرآن أنزل ثلاثاً ؛ ثلثاً : أحكام . وثلثاً : وعد ووعيد . وثلثاً : أسماء وصفات ، وجمعت هذه السورة أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات .

وروى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «سلُوه لأيِّ شيءٍ يصْنَعُ ذلِكَ » ؟ فسألوه : فقال : لأنَّها صفةُ الرَّحمنِ ، فأنا أحبُّ أن أقرأ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبرُوهُ أنَّ الله تعالى يُحِبُّهُ »{[2]} .

وروى الترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«وَجَبَتْ » ، قلتُ : ومَا وَجبَتْ ؟ قال : «الجَنَّةُ »{[3]} .

وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَنْ قَرَأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } خمسِينَ مرَّة غُفِرَتْ ذُنوبهُ »{[4]} .

وروى سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ قَرَأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } أحَدَ عشرة مرَّة بَنَى اللهُ لهُ قصْراً في الجنَّةِ ، ومن قَرَأهَا عِشْرينَ مَرَّةً بَنى اللهُ لهُ قَصرينِ في الجنَّة ، ومن قَرأهَا ثلاثين مرَّةً ، بَنَى له بِهَا ثلاثة قُصُورٍ في الجنَّة » فقال عمرُ بن الخطاب : والله يا رسول الله إذاً لنُكثِّرنَّ قُصُورنَا ، فقال - عليه الصلاة والسلام - :«اللهُ أوسعُ مِنْ ذلِكَ »{[5]} .

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } في مَرَضِه الَّذي يَمُوتُ فِيهِ لمْ يُفْتَنْ في قَبْرِهِ ، وأمِنَ من ضغطهِ القبْرِ ، وحمَلتهُ الملائِكةُ يومَ القِيامةِ بأكُفِّها ، حتَّى يُجيزَ الصِّراطَ إلى الجنَّةِ »{[6]} .

فصل في أسماء هذه السورة

في أسمائها : قال ابن الخطيب{[7]} : سورة التفريد ، وسورة التجريد ، وسورة التوحيد ، وسورة الإخلاص ، وسورة النجاة ، وسورة الولاية ، وسورة النسبة ، لقولهم : انسبْ لنا ربَّك ، وسورة المعرفة ، وسورة الجمال ، وسورة البراءة ؛ لأنها تبرئ من النفاق ، وسورة الأساس ، وسورة المحضر ؛ لأن الملائكة تحضر لسماعها ، وسورة المانعة ، والمنفرة ؛ لأنها تنفر الشيطان ، وسورة النور ؛ لأنها تنور القلب ، والله نور السموات والأرض . والله أعلم .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[61116]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/372)، والقرطبي (20/167).
[61117]:ينظر: الفخر الرازي 32/168 -169.
[61118]:الكشاف 4/818.
[61119]:الإملاء 2/397.
[61120]:ينظر: البحر المحيط 8/530.
[61121]:البيت لابن ميادة وهو أحد ثلاثة أبيات هي: لتقربن قربا جلديا *** ما دام فيهن فصيل حيا *** فقد دجا الليل فهيا هيا *** ينظر ديوانه ص 237، وخزانة الأدب 4/59، 9/272، 273، 274، وشرح أبيات سيبويه 1/266، وشرح المفصل 4/33، واللسان (جلذ)، وسمط اللآلىء ص 501، والكتاب 1/56، والمقتضب 4/91، والدر المصون 6/590.
[61122]:ينظر البحر المحيط 8/531.
[61123]:تقدم.
[61124]:الدر المصون 6/590.
[61125]:ينظر: المحرر الوجيز 5/537، والبحر المحيط 8/530، والدر المصون 6/590.
[61126]:الذي في القرطبي 20/168: قوله تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا} [الزخرف: 15].
[61127]:ينظر السابق.
[61128]:صدر بيت وعجزه: *** وإن تأثفك الأعداء بالرقد *** ينظر الديوان ص 26، والطبري 30/224، وإعراب القرآن 5/311، والبحر المحيط 8/530، وفتح القدير 5/577.
[61129]:تقدم تخريجه.