الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ} (4)

قوله : { كُفُواً أَحَدٌ } : في نصبِه وجهان : أحدُهما : أنه خبرُ " يكنْ " ، و " أحدٌ " اسمُها ، و " له " متعلِّقٌ بالخبر ، أي : ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له . وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه .

وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك ؛ بل جَوَّزه . والثاني : أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ ؛ بل هو خبرٌ ، ونصبُ " كُفُواً " على الحال على ما سيأتي بيانُه . وقال الزمخشري : " الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ . وقد نَصَّ سيبويه في " كتابِه " على ذلك ، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه ؟ قلت : هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى ، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه " .

والثاني : أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ " أحد " ؛ لأنَّه كان صفتَه ، فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً ، و " له " هو الخبر ، قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي : " وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ ، وذلك أنَّ قولَه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً ، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل " كان " ؛ بل هو متعلِّقٌ ب " كُفُواً " ، وقُدِّمَ عليه . التقدير : ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له ، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب " كُفُواً " ، وتَقَدَّم على " كُفُواً " للاهتمامِ به ؛ إذ فيه ضميرُ الباري تعالى ، وتوسَّطَ الخبرُ ، وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ ، فحَسُنَ ذلك .

وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ " له " الخبرُ ، و " كُفُواً " حالٌ مِنْ " أحد " ؛ لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه . وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ، وأنْ لا يكون . قال سيبويه : " وتقول : ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك ، وما كان [ أحدٌ ] مثلُك فيها ، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك ، إذا جعلت " فيها " مستقراً ، ولم تجعَلْه على قولك : فيها زيدٌ قائمٌ ، أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم . فإن جَعَلْتَه على " فيها زيدٌ قائمٌ " نَصَبْتَ ، فتقول : ما كان فيها أحدٌ خيراً منك ، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها ، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فكلما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ ، قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال الشاعر :

ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً ***

انتهى كلامُ سيبويه . قال الشيخ : " فأنت تَرَى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . ومعنى قولِه " مستقرَّاً " أي : خبراً للمبتدأ أو لكان . فإن قلتَ : فقد مَثَّل بالآية . قلت : هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه :

ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً

أُجْري فَضْلةً لا خبراً ، كما أنَّ " له " في الآية أُجْرِي فَضْلَةً ، فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً . ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ " له أحد " بل لو تأخَّرَ " كُفُو " ، وارتفع على الصفةِ ، وقد جَعَل " له " خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ ؛ بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو " كُفُواً " ، والمعنى : لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه " انتهى ما قاله الشيخ .

وقوله : " ولا يَشُكُّ أحدٌ " إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ . وإلاَّ فقولُه : " هذا الظرفُ ناقصٌ " ممنوعٌ ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ ، كالمقطوعِ عن الإِضافة ، ونحوِ " في دارٍ رجلٌ " ، وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو : " ما كان فيها أحدٌ خيراً منك " ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة ؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ : " والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ " ؟

وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء . وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ . وأسكنَ الفاءَ حمزةُ ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة . وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً . والباقون بالهمزِ مطلقاً . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] .

وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس " كِفاءٌ " بالكسر والمدِّ ، أي : لا مِثْلَ له . وأُنْشِدَ للنابغة :

لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له *** . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونافعٌ في رواية " كِفا " بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها . والكُفْءُ : النظيرُ . وهذا كفْءٌ لك ، أي : نظيرُكَ ، والاسم الكَفاءة بالفتح .