ويحكي طرفا من فسقهم ، الذي استوجب قضاء الله فيهم :
( هم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) . .
وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع ، ولؤم النحيزة . وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان ، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان . ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين .
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويسلموه للمشركين !
وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عنه تحت وطأة الضيق والجوع !
وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين ، ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله ، ويتركوا الصلاة !
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام ، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق . .
وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان ، من قديم الزمان ، إلى هذا الزمان . . ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية :
( ولله خزائن السماوات والأرض . ولكن المنافقين لا يفقهون ) . .
ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين ، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم . فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين !
وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة ، التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم . ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع . والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه . فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق . وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق ! وهو أكرم أن يكل عباده - ولو كانوا أعداءه - إلى ما يعجزون عنه البتة . فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء !
{ 7-8 } { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين ، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم ، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قالوا بزعمهم الفاسد :
{ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم ، لما اجتمعوا في نصرة دين الله ، وهذا من أعجب العجب ، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين ، وأذية المسلمين ، مثل هذه الدعوى ، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور{[1105]} ولهذا قال الله ردًا لقولهم : { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فيؤتي الرزق من يشاء ، ويمنعه من يشاء ، وييسر الأسباب لمن يشاء ، ويعسرها على من يشاء ، { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة ، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم ، وتحت مشيئتهم .
قوله تعالى : " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا .
ذكرنا سبب النزول فيما تقدم . وابن أبي قال : لا تنفقوا على من عند محمد حتى ينفضوا ، حتى يتفرقوا عنه . فأعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له ، ينفق كيف يشاء . قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال : " ولله خزائن السموات والأرض " . وقال الجنيد : خزائن السموات الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب ؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب . وكان الشبلي يقول : " ولله خزائن السموات والأرض " فأين تذهبون . " ولكن المنافقين لا يفقهون " أنه إذا أراد أمرا يسره .
قوله : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا } ينفضوا من الفضّ والانفضاض يعني التفرق{[4547]} أي يقول المنافقون لمن حولهم من الناس : لا تنفقوا على الذين عند محمد من أصحابه المهاجرين حتى يتفرقوا عنه .
قوله : { ولله خزائن السماوات والأرض } الله مالك كل شيء ، وبيده مقاليد السماوات والأرض . فهو الباسط الرازق المعطي كيف يشاء ولن يستطيع أحد أن يدفع الرزق من الله عن عباده { ولكن المنافقين لا يفقهون } لا يعون هذه الحقيقة ولا يدركونها لغفلتهم وضلالهم وفساد قلوبهم وكفرهم بالله ورسوله .