هذه الريح الصرصر العاتية : ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) . . والحسوم القاطعة المستمرة في القطع . والتعبير يرسم مشهد العاصفة المزمجرة المدمرة المستمرة هذه الفترة الطويلة المحددة بالدقة : ( سبع ليال وثمانية أيام ) . ثم يعرض المشهد بعدها شاخصا : ( فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) . . فترى . . فالمنظر معروض تراه ، والتعبير يلح به على الحس حتى يتملاه ! ( صرعى ) . . مصروعين مجدلين متناثرين ( كأنهم أعجاز نخل )بأصولها وجذوعها( خاوية )فارغة تآكلت أجوافها فارتمت ساقطة على الأرض هامدة ! إنه مشهد حاضر شاخص . مشهد ساكن كئيب بعد العاصفة المزمجرة المدمرة . .
{ حسوما } أي متتابعة الهبوب حتى استأصلتهم ؛ من حسمت الدابة : إذا تابعت ديها على الداء مرة بعد أخرى حتى ينحسم . أو نحسات مشئومات . { كأنهم أعجاز نخل } كأنهم أصول نخل بلا رءوس ، وهي جذوع{ خاوية } ساقطة ؛ من خوى النجم : إذا سقط للغروب . أو فارغة الأجواف بلى وفسادا ؛ من خوت الدار تخوى خواء : خلت من أهلها ، فهي خاوية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سخرها} يعني سلطها {عليهم} الرب تبارك وتعالى {سبع ليال وثمانية أيام حسوما} فهي كاملة دائمة لا تفتر عنهم فيهن، يعذبهم بالريح كل يوم حتى أفنت أرواحهم يوم الثامن.
{فترى} يا محمد {القوم فيها} يعني في ذلك الأيام {صرعى} يعني أمواتا، ثم شبههم بالنخل، فقال: {كأنهم أعجاز نخل} فذكر النخل لطولهم {خاوية} يعني أصول نخل بالية التي ليست لها رءوس، وبقيت أصلوها وذهبت أعناقها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
سخر تلك الرياح على عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوما،
فقال بعضهم: عُنى بذلك تباعا...
وقال آخرون: عنى بقوله: حُسُوما: الريح، وأنها تحسم كلّ شيء، فلا تبقى من عاد أحدا، وجعل هذه الحسوم من صفة الريح...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بقوله حُسُوما متتابعة، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. وكان بعض أهل العربية يقول: الحسوم: التباع، إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوّله عن آخره قيل فيه حسوم، قال: وإنما أخذوا والله أعلم من حسم الداء: إذا كوى صاحبه، لأنه لحم يكوى بالمكواة، ثم يتابع عليه.
"فَتَرى القَوْمَ فِيها صَرْعَى ": فترى يا محمد قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام الحسوم صرعى قد هلكوا.
"كأنّهُمْ أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ": كأنهم أصول نخل قد خوت،...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سخرها} قيل: أرسلها، وقيل: أدامها عليهم، وقيل: التسخير التذليل، أي ذللها، فصيرها، بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها. إنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة، لم تهلك شيئا من مساكنهم كقوله تعالى: {تدمّر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} [الأحقاف: 25] والريح إذا عملت على الأبدان [فهي على البنيان] أكثر. لكن الله تعالى لم يأمرها بذلك، والله أعلم.
{حسوما} قيل: متتابعة دائما، وقيل: قطعا قطعا من الحسم، يقال حسمت الريح كل شيء مرت به حسما، أي قطعته،
وقيل: مشؤومات حين انقطعت بركتها عنهم.
{فترى القوم فيها صرعى} أي إنك لو أدركتهم، وشهدتهم، وعاينتهم. لرأيتهم {صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} وقال بعضهم: ألا ترى الأعضاء المتفرقة: كل قطعة منها كأنها عجز نخلة؟ إذا كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل [فيصرف تأويله] إلى الأعضاء المتباينة.
{خاوية} قال بعضهم: أي بالية، وقيل: خاوية أي ساقطة كقوله تعالى: {وهي خاوية على عروشها} [البقرة: 259] أي ساقطة على قوائمها.. وقيل: أي خالية، فوصفها بالخلاء لأنها اقتلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان منها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود. أو مصدراً كالشكور والكفور؛ فإن كان جمعاً فمعنى قوله: {حُسُوماً} نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة...
وإن كان مصدراً: فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي: تحسم حسوماً، بمعنى تستأصل استئصالاً. أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم. أو يكون مفعولاً له، أي: سخرها للاستئصال...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{صرعى}: جمع صريع وهو المطروح بالأرض...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال ابن عباس: {خاوية}: خربة. وقال غيره: بالية، أي: جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان. وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور "...
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح وما فيها قالوا: هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته، وأنه هو الذي أوجدها لا الطبيعة ولا غيرها، بل إنما كانت بقدرته واختياره، قهراً لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة، فقال مستأنفاً دلالة على ذلك: {سخرها} أي قهرها على أن سلطها، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء، فقال: {عليهم} وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عتوها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره...
ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور، وكشف المشكل وإيضاح الخفي، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقاً لم يتقدم مثله، فذكر الأيام والليالي، وقدم الليالي لأن المصائب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ، ولأن عددها مذكر في اللفظ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة، ولأنها سبع، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريباً في حملة العرش، ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال: {سبع ليال} أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبدا... و قد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً -فتأمل ذلك...
ولما كان الحاسم المهلك، سبب عنه قوله مصوراً لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه: {فيها} أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها {صرعى} أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار،... جمع صريع {كأنهم أعجاز} أي أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم... {خاوية} أي متآكلة الأجواف ساقطة، من خوي النجم- إذا سقط للغروب، ومن خوي المنزل -إذا خلا من قطانه،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتسخير: الغصْب على عمل، واستعير لتكوين الريح الصرصر تكويناً متجاوزاً المتعارف في قوة جنسها، فكأنها مكرهة عليه.
والحق سبحانه استخدم لفظة {حُسُومًا} أي أنها لم تبق منهم أحدا، مثلما نقول: حسمت الأمر، أي أنهيته على التمام.
فسمى الحق سبحانه الريح التي سلطها على قوم عاد حسوما لأنها قتلتهم وأفنتهم.
" سخرها عليهم " أي أرسلها وسلطها عليهم . والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار . " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " أي متتابعة لا تفر ولا تنقطع ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما . قال الفراء : الحسوم التِّباع ، من حسم الداء إذا كوي صاحبه ، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه . قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي :
ففرق بين بينهم{[15287]} زمان *** تتابع فيه أعوامٌ حسومُ
وقال المبرد : هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره . وقيل : الحسم الاستئصال . ويقال للسيف حسام ؛ لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته . وقال الشاعر :
حسامٌ إذا قمتُ مُعْتَضِداً *** به كفى العَوْدَ منه البدء ليس بِمعْضَدِ{[15288]}
والمعنى أنها حسمتهم ، أي قطعتهم وأذهبتهم . فهي القاطعة بعذاب الاستئصال . قال ابن زيد : حسمتهم فلم تبق منهم أحدا . وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها ؛ لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم . وقال الليث : الحسوم الشؤم . ويقال : هذه ليالي الحسوم ، أي تحسم الخير عن أهلها ، وقال في الصحاح . وقال عكرمة والربيع بن أنس : مشائيم ، دليله قوله تعالى : " في أيام نحسات{[15289]} " [ فصلت : 16 ] . عطية العوفي : " حسوما " أي حسمت الخير عن أهلها . واختلف في أولها ، فقيل : غداة يوم الأحد ، قاله السدي . وقيل : غداة يوم الجمعة ، قال الربيع بن أنس . وقيل : غداة يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه . قال وهب : وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز ، ذات برد وريح شديدة ، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء ، ونسبت إلى العجوز لأن عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن . وقيل : سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء . وهي في آذار من أشهر السريانيين . ولها أسام مشهورة ، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر{[15290]} :
كُسِع{[15291]} الشتاء بسبعة غُبْرٍ *** أيامِ شَهْلَتِنَا{[15292]} من الشَّهْرِ
فإذا انقضت أيامها ومضت{[15293]} *** صِنٌّ وصَنَّبْر مع الوَبْرِ
وبآمر وأخيه مُؤْتَمِرٌ *** ومعَلِّل وبمطفئِ الجِمْرِ
ذهب الشتاءُ مُوَلِّيًا عَجِلاً{[15294]} *** وأتَتْكَ وَاقِدةُ من النَّجْرِ{[15295]}
و " حسوما " نصب على الحال . وقيل على المصدر . قال الزجاج : أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم ، وهو مصدر مؤكد . ويجوز أن يكون مفعولا له ، أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال ، أي لقطعهم واستئصالهم . ويجوز أن يكون جمع حاسم . وقرأ السدي " حسوما " بالفتح ، حالا من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة .
قوله تعالى : " فترى القوم فيها " أي في تلك الليالي والأيام . " صرعى " جمع صريع ، يعني موتى . وقيل : " فيها " أي في الريح . " كأنهم أعجاز " أي أصول . " نخل خاوية " أي بالية ، قاله أبو الطفيل . وقيل : خالية الأجواف لا شيء فيها . والنخل يذكر ويؤنث . وقد قال تعالى في موضع آخر : " كأنهم أعجاز نخل منقعر{[15296]} " [ القمر : 20 ] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظم أجسامهم . ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف . وقال ابن شجرة : كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية . وقال يحيى بن سلام : إنما قال " خاوية " لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية . ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع ، كما قال تعالى : " فتلك بيوتهم خاوية{[15297]} " [ النمل : 52 ] أي خربة لا سكان فيها . ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا ؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها . فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية .
{ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية }
{ سخرها } أرسلها بالقهر { عليهم سبع ليال وثمانية أيام } أولها من صبح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وكانت في عجز الشتاء { حسوماً } متتابعات شبهت بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم { فترى القوم فيها صرعى } مطروحين هالكين { كأنهم أعجاز } أصول { نخل خاوية } ساقطة فارغة .