( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ ص ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا ) . .
إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين :
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد [ ص ] فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد [ ص ] هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وفي الصحيحين عن ابن مسعود : أنه قال : قلت : يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عزاهم، فقال: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله}، يعني إن تصبكم جراحات يوم أحد فقد مس القوم، يعني كفار قريش، قرح مثله، يقول: قد أصاب المشركين جراحات مثله يوم بدر، وذلك قوله سبحانه: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} يوم لكم ببدر، ويوم عليكم بأحد، مرة للمؤمنين ومرة للكافرين، بديل للكافرين من المؤمنين، ويبتلى المؤمنين بالكافرين، {وليعلم الله}، يعني وليرى إيمان {الذين آمنوا} منكم عند البلاء فيتبين إيمانهم أيشكوا في دينهم أم لا، {ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} يعني المنافقين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة: {إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} كلاهما بفتح القاف، بمعنى: إن يمسسكم القتل والجراح يا معشر أصحاب محمد، فقد مسّ القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتل وجراح مثله. وقرأ عامة قراء الكوفة: «إنْ يَمسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ». وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ: {إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} بفتح القاف في الحرفين لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح، فذلك يدلّ على أن القراءة هي الفتح. وكان بعض أهل العربية يزعم أن القَرْح والقُرْح لغتان بمعنى واحد، والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا...
وأما تأويل قوله: {إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ} فإنه: إن يصبكم...
يعني تعالى ذكره بقوله: {وتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النّاسِ} أيام بدر وأُحد، ويعني بقوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ}: نجعلها دولاً بين الناس مصرفة، ويعني بالناس: المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عزّ وجلّ أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين، وأدال المشركين من المسلمين بأُحد، فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم، يقال منه: أدال الله فلانا من فلان فهو يديله منه إدالة إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه...
{وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحبّ الظّالِمينَ}. يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس. ولو لم يكن في الكلام واو لكان قوله: «ليعلم» متصلاً بما قبله، وكان: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت الواو فيه آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرا مطلوبا للام التي في قوله: «وليعلم»، متعلقة به...
فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم، نداول بين الناس، فاستغنى بقوله: {وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا منكم} عن ذكر قوله: {مِنَ الّذِينَ نافَقُوا} لدلالة الكلام عليه، إذ كان في قوله: {الّذِينَ آمَنُوا} تأويل «أيّ» على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: {لنَعْلَمَ أيّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى} غير أن الألف واللام والذي ومِن، إذا وضعت مع العلم موضع أيّ نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل: وليعلمنّ الكاذبين، فأما «أيّ» فإنها ترفع. وأما قوله: {وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} فإنه يعني: وليعلم الله الذين آمنوا، وليتخذ منكم شهداء: أي ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها. والشهداء جمع شهيد¹...وأما قوله: {وَاللّهُ لا يُحِبّ الظالِمِينَ} فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وتلك الأيام نداولها بين الناس} تحتمل الآية وجوها: يوما للمؤمنين ويوما عليهم، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من الله عز وجل يمتحنهم ويبتليهم مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم ومرة بالظفر للعدو عليهم، كقوله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء 35) وكقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} (الأعراف 168} يمتحن عباده بجميع أنواع المحن بالخير مرة وبالشر ثانيا. وتحتمل المداولة أيضا وجها آخر؛ وهو أن الظفر والنصر لو كان أبدا للمؤمنين، لكان الكفار إذا أسلموا أسلموا إسلام اختيار، ولكن إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين. وإن كان الظفر والنصر أبدا للكفار فلعلهم يظنون أنهم المحقون، فمنعهم ذلك عن الإسلام. ويحتمل أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم أو خلاف كان منهم؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي، والله أعلم...
وقوله تعالى: {ويتخذ منكم شهداء} أي يستشهدون في سبيل الله بأيدي عدوهم.
ويحتمل قوله: {ويتخذ منكم شهداء} على الناس، كقوله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة 143)، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"... إنما هو بتخفيف المحنة تارة وتشديدها أخرى، بدليل "إن الله لا يحب الظالمين"، ولو كانت المداولة بالنصر لا محالة، للمؤمنين تارة وللكافرين تارة، لكان محبهم من حيث هو ناصر لهم. والعامل في قوله، وليعلم الله يحتمل أمرين: أحدهما -أن يكون محذوفا يدل عليه أول الكلام، وتقديره: وليعلم الله الذين آمنوا نداولها. الثاني- أن يعمل فيه "نداولها "الذي في اللفظ، وتقديره: نداولها بين الناس لضروب من التدبير.
"وليعلم الله الذين آمنوا "وخبر ليعلم يحتمل أمرين: أحدهما -أن يكون محذوفا وتقديره" وليعلم الله الذين آمنوا "متميزين بالإيمان من غيرهم، ولا يكون على هذا يعلم بمعنى: يعرف، لأنه ليس المعنى على تعرف الذوات، بل المعنى على أن يعلم تميزها بالإيمان. والثاني -" وليعلم الله الذين آمنوا "بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، أي يعاملهم معاملة من يريد أن يعرفهم الله بهذه الحال. وقال أبو علي: معناه وليصبروا، فعبر عن الصبر بالعلم. وقال البلخي" وليعلم الله "إيمانكم موجودا أي تفعلونها، فيعلمه الله كذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن نالكم فينا مشقة، فالذين تقدموكم لقوا مثل ما لقيتم، ومُنوا بمثل ما به مُنيتم، فمن صبر منهم ظفر، ومَنْ ضجر مِنْ حَمْلِ ما لقي خَسِر، والأيام نُوَبٌ والحالات دُوَلٌ، ولا يخفى على الحق شيء.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والله لا يحب الظالمين}: أي المشركين، أي: إنه إنما يديل المشركين على المؤمنين لما ذكر، لا لأنه يحبهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
فإن قال قائل: ما معنى قوله: (وليعلم الله الذين آمنوا)، وهو عالم بهم أبدا؟ قيل: معناه: وليعلم الصابرين على الجهاد في مواطن الجهاد ليعاملهم معاملة من يبتليهم؛ فيعلمهم، والعلم بالجهاد في مواطن الجهاد إنما يقع بعد وقوع الجهاد، وقيل: العلم الأول: علم الغيب، وقوله: (وليعلم) يعني: علم المشاهدة والوقوع، والمجازة على علم الوقوع لا على علم الغيب.
(ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) يعني: أنه ما جعل اليد للكفار يوم أحد لحبه إياهم؛ ولكن ليبتليكم، ويجعلكم شهداء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال. فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104] وقيل: كان ذلك يوم أحد، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف قيل {قَرْحٌ مّثْلُهُ} وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت: بلى كان مثله، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم في الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تحبون} [آل عمران: 75]. {وَتِلْكَ الأيام}... المراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة، نداولها: نصرفها بين الناس؛ نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء... {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعلل محذوفاً معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم مَن الثابت على الإيمان منكم مِن غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات. والثاني: أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه...
{والله لاَ يُحِبُّ الظالمين}: اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيل الله الممحصين من الذنوب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر تعالى على جهة التسلية أن {الأيام} على قديم الدهر وغابره أيضاً إنما جعلها دولاً بين البشر، أي: فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار، وقال تعالى: {نداولها} فهي مفاعلة من جهة واحدة، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين، فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك...
فإن قيل كيف قال: {قرح مثله} وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلنا: يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى... فقوله: {تلك الأيام} إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة، فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال... واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله.
والثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدبا له وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبا من الله عليه.
والثالث: وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة، ولذلك فإنه تعالى يميت بعد الإحياء، ويسقم بعد الصحة، فإذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء، والقدرة بالعجز... [و] اللام في قوله: {وليعلم الله} متعلق بفعل مضمر، إما بعده أو قبله، أما الإضمار بعده فعلى تقدير {وليعلم الله الذين آمنوا} فعلنا هذه المداولة، وأما الإضمار قبله فعلى تقدير {وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور}، منها ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها ليتخذ منكم شهداء، ومنها ليمحص الله الذين آمنوا، ومنها ليمحق الكافرين، فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله: {إن يمسسكم قرح} أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم {فقد مس القوم} أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر {قرح مثله} أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر، على أنه كما أنه ظفرهم -بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن- بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم، ويوم أحد بالقتل والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق، ترجون من الله ما لا يرجون، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر {وتلك الأيام} ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله: {نداولها بين الناس} أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى. ولما كان التقدير: ليدال على من كانت له الدولة، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله: {وليعلم الله} أي المحيط بجميع الكمال {الذين آمنوا} أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم، ومعنى {ليعلم} أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم {ويتخذ منكم شهداء} أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة، لا غيبة فيها، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره، فإن الله يحب المؤمنين، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء {والله} أي الملك الأعلى {لا يحب الظالمين} أي الذين يخالف فعلهم قولهم، فهو لا يستشهدهم، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب، لئلا يحزنوا على ما أصابهم، ونذارة في تأديب بأنهم ما خذلوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو، والآية من الاحتباك: إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والمراد: إن كان مسكم قرح، فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد، لأنه قد مس أعداءكم مثله، وهم على ما هم عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتلك الأيام نداولها بين الناس}:... قال الأستاذ الإمام: هذه قاعدة كقاعدة "قد خلت من قبلكم سنن". أي هذه سنة من تلك السنن، وهي ظاهرة بين الناس بصرف النظر عن المحقين والمبطلين. والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافا، وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها. أي إذا علمتم أن ذلك سنة، فعليكم أن لا تهنوا وتضعفوا بما أصابكم، لأنكم تعلمون أن الدولة تدول. والعبارة تومئ إلى شيء مطويّ كان معلوما لهم، وهو أن لكل دولة سبب، فكأنه قال: إذا كانت المداولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة، فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام. وفي الجملة من الإيجاز وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ما لا يعهد مثله في غير القرآن. ثم قال عز وجل: {وليعلم الله الذين آمنوا} أي فعل ذلك ليقيم سنته في مداولة الأيام، وليعلم الذين آمنوا من الذين نافقوا و {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} أي يميزهم منهم. وقد تقدم ذكرهم في إجمال القصة، وسيأتي ذكر لهم في الآيات. فهو معطوف على محذوف تذهب العقول في تعيينه كل مذهب، و تبحث عن حقيقته في كل فج، أو تلتمسه في فوائد قاعدة جعل الأيام دولا بين الناس، وعدم حصر الظفر والنصر في قوم دون قوم، فكل ما وجدته يصلح حكمة وعلة لهذه القاعدة عددته من المطوي المحذوف. وأعمه ما أشرنا إليه آنفا؛ وهو أن يقال في التقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة والباحث في الحكمة الإلهية البالغة، أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعي الذي يُدال به قوم على قوم مما يظهر ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره... وقول الأستاذ الإمام المراد بعلم الله فيه علم عباده وإنهم يفسرونه بعلم الظهور أي ليظهر علمه بذلك، وقال هنا موضحا قول الجمهور: إن المراد بالعلم علم الظهور، قالوا إن العلم بالشيء على أنه سيقع ثابت في الأزل، فإذا وقع ذلك الشيء حصل تغير في ذلك المعلوم فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهل تعلق العلم به عند الوقوع هو عين تعلقه به من الأزل إلى قبيل وقوعه؟ قال الحكماء إن الزمن ليس بشيء بالنسبة إلى الله فليس هناك تقدم ولا تأخر ولا متقدم ولا متأخر، فتعلق العلم بالمعلوم واحد في الأزل والأبد. فعلى هذا القول يكون معنى "ليعلم الله "ليظهر علمه للناس بظهور المعلوم لهم، فهو كقوله: {ليميز الله الخبيث من الطيب} أي يعلم الناس ذلك ويميزونه... ثم قال: إن العبارة ظاهرة الصحة وإيهام تجدد العلم الإلهي مدفوع، ولكن ما النكتة في اختيار هذه العبارة وأمثالها كقوله في الآية التي بعد هذه الآية" ولما يعلم الله الذين آمنوا "ولم يبين المراد بعبارة لا إيهام فيها؟ قال ما نصه: النكتة بيان أن العلم إذا لم يصدقه العمل لا يعتقد به، وبيان ذلك أن الإنسان كثيرا ما يتصور الشيء ويحكم بصحته فيرى أنه يعتقده، لكن إذا عرض العمل كذبه في اعتقاده وتبين أنه لم يكن متحققا به، وإنما كان صورة انطبعت في مخه مع الغفلة عما يعارضها من سائر عقائده المتمكنة التي لها سلطان على وجدانه وأثر في عمله وأخلاقه وعاداته التي تجري عليها أعماله. مثال ذلك أن بعض الناس تحدثه نفسه بأنه شجاع ويعتقد ذلك لعدم وجود ما يعارضه في نفسه، حتى إذا ما عرض له ما تظهر به حقيقة الشجاعة بالفعل من الحاجة إلى ركوب الخطر وخوض غمرات الموت دفاعا عن الحق أو الحقيقة، جبن وجزع وظهر غروره بنفسه وانخداعه لوهمه. ومثله من تحدثه نفسه بأنه لقوة إيمانه عظيم الثقة بالله والتوكل عليه، حتى تظهر الحوادث والوقائع أنه هلوع إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوعا، لا يثق بربه ولا بنفسه. فأراد تعالى إن يرشدنا بقوله" ليعلم "إلى أن العلم لا يكون علما، والإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا صدقهما العمل وظهر أثرهما بالفعل، فكأنه قال ليتبين الذين آمنوا على طريق التمثيل. أقول: وأظهر من هذا في تقرير هذا الوجه أن يقال: إن علم الله تعالى لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه تعالى هو الذي ليس له حقيقة ثابتة وكل ما له حقيقة ثابتة فلابد أن يكون معلوما له تعالى، فيكون معنى" ليعلم الله الذين آمنوا "ليثبت ويحقق بالفعل إيمان الذين آمنوا أو صدقهم في إيمانهم. فإنه متى ثبت وتحقق، كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة. فأطلق أحد المتلازمين، وأراد به الآخر، على طريق المجاز المرسل...
وقوله: {والله لا يحب الظالمين} جملة معترضة مسوقة لبيان أن الشهداء يكونون ممن خلصوا لله وأخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، فلم يظلموا أنفسهم بمخالفة الأمر أو النهي، ولا بالخروج عن سنن الله في الخلق، وأنه تعالى لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم؛ و في ذلك بشارة للمتقين، وإنذار للمقصرين، فالناس قبل الابتلاء بالمحن والفتن يكونون سواء فإذا ابتلوا تبين المخلص والصادق والظالم والمنافق. وما أسهل ادعاء الإخلاص والصدق إذا كانت آياتهما مجهولة. فبيان السبب مؤدب للمقصرين وقاطع لألسنة المدعين، إلا أن يكونوا مع الأغبياء الجاهلين. أقول: وفيه أيضا أن أعداءهم من المشركين لا يحبهم الله أن لا يعلمهم معاملة المحب للمحبوب لأنهم يظلمون أنفسهم ويسفهونها بعبادة المخلوقات واجتراح السيئات. ويظلمون غيرهم بالفساد في الأرض؛ والبغي على الناس، وهضم حقوقهم والظالم لا تدوم له سلطة؛ ولا تثبت له دولة، فإذا أصاب غرة من أهل الحق والعدل فكانت له دولة في حرب أو حكم؛ فإنما تكون دوله سريعة الزوال؛ قريبة الانحلال والاضمحلال؛ وفيه تعريض أيضا بالمنافقين فإنهم أظلم الظالمين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين. والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعا في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم. ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة. وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله. وقد كان الله يربي هذه الجماعة -وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب -وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة لله، وتوكلا عليه، والتصاقا بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين. ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس، وفيما بعد تمييز الصفوف، وعلم الله للمؤمنين: (ويتخذ منكم شهداء).. وهو تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه -سبحانه- فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه -سبحانه- ويخصهم بقربه. ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة. يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله -سبحانه- منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق؛ وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال!...
(والله لا يحب الظالمين).. والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك. بوصفه أظلم الظلم وأقبحه. وفي القرآن (إن الشرك لظلم عظيم).. وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أنه قال: قلت: يا رسول الله. أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك...".. وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين. فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله. والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين. وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد، لها مناسبتها الحاضرة. فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه. وهذا هو مقام الاستشهاد، وفي هذا تكون الشهادة؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمسّ هنا: الإصابة، كقوله في سورة [البقرة: 214] {مستهم البأساء والضراء} والقَرح -بفتح القاف في لغة قريش-: الجرح، -وبضمِّها- في لغة غيرهم... [و] هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الَّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة... والمعنى إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً. ولذلك أعقبه بقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}. والتَّعبير عمَّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في {يمسسكم} لقُربه من زمن الحال، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضِي لبعده لأنَّه حصل يوم بدر...
والمعنى: إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين. وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 137]
ومن هنا ينتقل كتاب الله إلى الحديث بالخصوص عن يوم أحد، وما جلبت فيه بعض المواقف من متاعب للمسلمين، خصوصا ما وقع فيه من أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين بالأخص أسباب الهزيمة في هذا اليوم، كما يبين قبل ذلك أسباب النصر في غزوة بدر. ويبتدئ الحديث في هذا الموضوع الخطير بتقرير مبدأ أساسي لا يختلف، هو أن لله سننا ثابتة في المجتمع تسير الحياة على مقتضاها مهما اختلفت القرون والأجيال. وفي طليعة هذه السنن والقوانين الثابتة سنن النصر وسنن الهزيمة، أي مختلف العوامل والأسباب التي تؤدي إلى كل منهما، ثم تقرير مبدأ آخر هو أن النصر غير مضمون ولا محتوم في كل معركة، كما أن الهزيمة غير لازمة ولا منتظرة في كل مناسبة، بل إن معركة الحياة سلسلة من الانتصارات والهزائم، والعاقبة والغلبة في النهاية إنما هي لأهل الحق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 139]
[ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون]، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة... وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد. ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كلّ ما تريده في ما نستوحيه منها هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة [إن كنتم مؤمنين] من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إنه سبحانه يقول: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) و بذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.
و«القرح»: جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.
فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال في بدر حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم ف (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟
...ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالانتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة في معركة واحدة، وما يتبعها من الآثار أمور دائمة ثابتة باقية، بل لابدّ من الانتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى انتصار، فالحياة صعود ونزول، و أحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها. (وتلك الأيام نداولها بين 15 الناس) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.
ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: (وليعلم الله الذين آمنوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّاً عن أدعياء الإيمان.
وبعبارة أخرى: إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أُمة من الأُمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الانتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.
ثمّ إنه في قوله: (ويتخذ منكم شهداء) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.
إن الأُمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.
ويمكن أن يكون المراد من «الشهداء» هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله (ويتخذ منكم شهداء) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم شهوداً لتعرفوا كيف أن عدم الانضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.
وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الانتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.
ثمّ إنه تعالى يختم هذا الاستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: (والله لا يحب الظالمين) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.