هذه الريح الصرصر العاتية : ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) . . والحسوم القاطعة المستمرة في القطع . والتعبير يرسم مشهد العاصفة المزمجرة المدمرة المستمرة هذه الفترة الطويلة المحددة بالدقة : ( سبع ليال وثمانية أيام ) . ثم يعرض المشهد بعدها شاخصا : ( فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) . . فترى . . فالمنظر معروض تراه ، والتعبير يلح به على الحس حتى يتملاه ! ( صرعى ) . . مصروعين مجدلين متناثرين ( كأنهم أعجاز نخل )بأصولها وجذوعها( خاوية )فارغة تآكلت أجوافها فارتمت ساقطة على الأرض هامدة ! إنه مشهد حاضر شاخص . مشهد ساكن كئيب بعد العاصفة المزمجرة المدمرة . .
حسوما : تتابعت تلك الأيام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم . الحسم : القطع . أعجاز نخل خاوية : أصول النخل المقطوعة منذ زمن ، فهي جوفاء فارغة .
سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم ، { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة .
وقوله تعالى : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } الخ استئناف جيء به بياناً لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالاً والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولاً به خالياً أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتلئ ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخاً وما هي أقوى ويسمى العاصف نحو سبعة عشر فرسخاً وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخاً وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخاً وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفاً ومعنى سخرها عليهم سلطها عز وجل بقدرته عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ حُسُوماً } أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها أبو صفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منهاكية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤمات كما قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حسوماً محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد وقال الراغب الحسم أزال أثر الشيء يقال قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساماً وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحسوماً في الآية قيل حاسماً أثرهم وقيل حاسماً خبرهم وقيل قاطعاً لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل وجوز أن يكون حسوماً مصدراً لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالاً أي بحسمهم حسوماً بمعنى تستأصلهم استئصالاً أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم وأيدت المصدرية بقراءة السدي حسوماً بفتح الحاء على أنه حال من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفرداً على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وإنما سميت أيام العجوز لأن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفيء الجمر ومطفيء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار { فَتَرَى القوم } أي إن كنت حاضراً حينئذ فالخطاب فيه فرضي { فِيهَا } أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر { صرعى } أي هلكى جمع صريع { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرئ نخيل بالياء { خَاوِيَةٍ } خلت أجوافها بلى وفساداً وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سخرها} يعني سلطها {عليهم} الرب تبارك وتعالى {سبع ليال وثمانية أيام حسوما} فهي كاملة دائمة لا تفتر عنهم فيهن، يعذبهم بالريح كل يوم حتى أفنت أرواحهم يوم الثامن.
{فترى} يا محمد {القوم فيها} يعني في ذلك الأيام {صرعى} يعني أمواتا، ثم شبههم بالنخل، فقال: {كأنهم أعجاز نخل} فذكر النخل لطولهم {خاوية} يعني أصول نخل بالية التي ليست لها رءوس، وبقيت أصلوها وذهبت أعناقها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
سخر تلك الرياح على عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوما،
فقال بعضهم: عُنى بذلك تباعا...
وقال آخرون: عنى بقوله: حُسُوما: الريح، وأنها تحسم كلّ شيء، فلا تبقى من عاد أحدا، وجعل هذه الحسوم من صفة الريح...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بقوله حُسُوما متتابعة، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. وكان بعض أهل العربية يقول: الحسوم: التباع، إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوّله عن آخره قيل فيه حسوم، قال: وإنما أخذوا والله أعلم من حسم الداء: إذا كوى صاحبه، لأنه لحم يكوى بالمكواة، ثم يتابع عليه.
"فَتَرى القَوْمَ فِيها صَرْعَى ": فترى يا محمد قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام الحسوم صرعى قد هلكوا.
"كأنّهُمْ أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ": كأنهم أصول نخل قد خوت،...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سخرها} قيل: أرسلها، وقيل: أدامها عليهم، وقيل: التسخير التذليل، أي ذللها، فصيرها، بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها. إنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة، لم تهلك شيئا من مساكنهم كقوله تعالى: {تدمّر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} [الأحقاف: 25] والريح إذا عملت على الأبدان [فهي على البنيان] أكثر. لكن الله تعالى لم يأمرها بذلك، والله أعلم.
{حسوما} قيل: متتابعة دائما، وقيل: قطعا قطعا من الحسم، يقال حسمت الريح كل شيء مرت به حسما، أي قطعته،
وقيل: مشؤومات حين انقطعت بركتها عنهم.
{فترى القوم فيها صرعى} أي إنك لو أدركتهم، وشهدتهم، وعاينتهم. لرأيتهم {صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} وقال بعضهم: ألا ترى الأعضاء المتفرقة: كل قطعة منها كأنها عجز نخلة؟ إذا كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل [فيصرف تأويله] إلى الأعضاء المتباينة.
{خاوية} قال بعضهم: أي بالية، وقيل: خاوية أي ساقطة كقوله تعالى: {وهي خاوية على عروشها} [البقرة: 259] أي ساقطة على قوائمها.. وقيل: أي خالية، فوصفها بالخلاء لأنها اقتلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان منها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود. أو مصدراً كالشكور والكفور؛ فإن كان جمعاً فمعنى قوله: {حُسُوماً} نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة...
وإن كان مصدراً: فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي: تحسم حسوماً، بمعنى تستأصل استئصالاً. أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم. أو يكون مفعولاً له، أي: سخرها للاستئصال...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{صرعى}: جمع صريع وهو المطروح بالأرض...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال ابن عباس: {خاوية}: خربة. وقال غيره: بالية، أي: جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان. وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور "...
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح وما فيها قالوا: هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته، وأنه هو الذي أوجدها لا الطبيعة ولا غيرها، بل إنما كانت بقدرته واختياره، قهراً لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة، فقال مستأنفاً دلالة على ذلك: {سخرها} أي قهرها على أن سلطها، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء، فقال: {عليهم} وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عتوها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره...
ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور، وكشف المشكل وإيضاح الخفي، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقاً لم يتقدم مثله، فذكر الأيام والليالي، وقدم الليالي لأن المصائب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ، ولأن عددها مذكر في اللفظ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة، ولأنها سبع، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريباً في حملة العرش، ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال: {سبع ليال} أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبدا... و قد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً -فتأمل ذلك...
ولما كان الحاسم المهلك، سبب عنه قوله مصوراً لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه: {فيها} أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها {صرعى} أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار،... جمع صريع {كأنهم أعجاز} أي أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم... {خاوية} أي متآكلة الأجواف ساقطة، من خوي النجم- إذا سقط للغروب، ومن خوي المنزل -إذا خلا من قطانه،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتسخير: الغصْب على عمل، واستعير لتكوين الريح الصرصر تكويناً متجاوزاً المتعارف في قوة جنسها، فكأنها مكرهة عليه.
والحق سبحانه استخدم لفظة {حُسُومًا} أي أنها لم تبق منهم أحدا، مثلما نقول: حسمت الأمر، أي أنهيته على التمام.
فسمى الحق سبحانه الريح التي سلطها على قوم عاد حسوما لأنها قتلتهم وأفنتهم.