ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين ) . .
وما ألَتناهم من عملهم : ما أنقصناهم .
هم وذريّاتهم الطيبة ، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم ، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح .
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات . وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع . والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع .
وقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ } الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذي شاركتهم ذريتهم في الايمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : { بإيمان } متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناءاً على تفاوت مراتب نفس الايمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الايمان الكامل أصالة لا إلحاقاً قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير والمعول عليه ما قدمنا { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } في الدرجة . أخرج سعيد بن منصور . وهناد . وابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والحاكم . والبيهقي في «سننه » عن ابن عباس قال : " إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بِهِم عينه ثم قرأ الآية " وأخرجه البزار . وابن مردويه عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه . والطبراني عنه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وقرأ ابن عباس الآية ، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحياناً ولو للزيارة . وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته { وَمَا ألتناهم } أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق { مّنْ عَمَلِهِم } أي من ثواب عملهم { مِن شَىْء } أي شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال ابن زيد الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئاً بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملاً وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وإلى الأول ذهب ابن عباس . وابن جبير . والجمهور . والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار .
والضحاك أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقاً بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعاً لآبائهم فكانوا مؤمنين حكماً لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل : الموصول معطوف على { حور } [ الطور : 20 ] ، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : { واتبعتهم } عطف على { زوجناهم } [ الطور : 20 ] ، وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجهاً أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس . وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم .
وقرأ أبو عمرو { وأتبعناهم } بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضاً ذرياتهم جمعاً نصباً ، وابن عامر كذلك رفعاً ، وقرأ ذرياتهم بكسر الذال { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ الحسن . وابن كثير ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن هرمز آلتناهم بالمد من آلت يؤلت ، وابن مسعود . وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش أيضاً لتناهم بفتح اللام ، قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرئ وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلاً قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ } أي بكسبه وعمله { رَهَينٌ } أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤدّ الدين فإن كان العمل صالحاً فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا :
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أصحاب اليمين } [ المدثر : 38 ، 39 ] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم .
ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذباً لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : { هُوَ البر الرحيم } [ الطور : 28 ] ليكون كلاماً راجعاً إلى حال الفريقين المدعوين . والمتقين وإنما جعل متخللاً بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم ، قال في «الكشف » : ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضاً ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقاً لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلاً على الآباء لا على الأبناء ابتداءاً لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافاً بيانياً لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : { رَهَينٌ } فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي «الإرشاد » أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلاً بمعنى المفعول أسرع تبادراً إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 ) }
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان ، وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة ، وإن لم يبلغوا عمل آبائهم ؛ لتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيُجْمَع بينهم على أحسن الوجوه ، وما نقصناهم شيئًا من ثواب أعمالهم . كل إنسان مرهون بعمله ، لا يحمل ذنب غيره من الناس .
قوله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين 21 وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون 22 يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم 23 ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون 24 وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون 25 قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين 26 فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم 27 إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } .
يبين الله حال أهل السعادة في الجنة وهو يتقلبون في النعيم والخيرات والبركة ، فضلا عما يغشى قلوبهم من البهجة والسرور والأمن . ويكتمل ذلك إذا لحقت بهم ذرياتهم لتقر بهم عيونهم فكانوا جميعا سعداء منعمين في الجنة . لا جرم أن هذه السعادة المثلى والفوز الكامل المبين .
قوله : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } هذه رحمة من الله بعباده المؤمنين ، إذ يدخلهم الجنة ويلحق بهم ذريتهم من الأولاد والنسل المؤمنين ، وإن كان دونهم في مراتب الإيمان والعمل الصالح ، وذلك لتكتمل بهجتهم وسعادتهم وتقر بهم عيونهم . وفي ذلك روي عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه . وفي رواية عنه في تأويل الآية قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا وهو قوله جل وعلا : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } يعني ألحق الله الذريات بآبائهم في الجنة ولم ينقص الآباء شيئا من أعمالهم . وهذا فضل الله على الأبناء ببركة عمل آبائهم . أما فضل الله على الآباء ببركة دعاء أبنائهم فهو ظاهر ومعروف . وفي ذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
قوله : { كل امرئ بما كسب رهين } يعني لا يؤاخذ الله أحدا بذنب غيره بل كل واحد مؤاخذ بذنب نفسه ومرتهن بعمله الذي عمله من خير وشر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال في التقديم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} يعني من أدرك العمل من أولاد بني آدم المؤمنين فعمل خيرا فهم مع آبائهم في الجنة، ثم قال: {ألحقنا بهم ذريتهم} يعني الصغار الذين لم يبلغوا العمل من أولاد المؤمنين فهم معهم وأزواجهم في الدرجة لتقر أعينهم.
{وما ألتناهم من عملهم من شيء} يقول: وما نقصنا الآباء إذا كانوا مع الأبناء من عملهم شيئا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرّياتهم المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم، تكرمة لآبائهم المؤمنين، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء... عن ابن عباس، قال: إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، ليقرّ بهم عينه، ثم قرأ «وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم وَما أَلَتْناهمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم التي بلغت الإيمان بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء...
وقال آخرون نحو هذا القول، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله:"أَلْحَقْنا بِهِمْ "من ذكر الذرّية، والهاء والميم في قوله: ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين. وقالوا: معنى الكلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار، وما ألتنا الكبار من عملهم من شيء...
وقال آخرون: بل معنى ذلك "وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِم ذُرّيّتَهُمْ" فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء... وقال آخرون: إنما عنى بقوله: «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ»: أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الآباء...
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل... هو: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأتبعناهم ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان، وآمنوا بالله ورسوله، ألحقنا بالذين آمنوا ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم، وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لآبائهم، وما ألتناهم من أجور عملهم شيئا.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك الأغلب من معانيه، وإن كان للأقوال الآخر وجوه...
وقوله: "وما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وما ألتنا الآباء، يعني بقوله: "وَما ألَتْناهُمْ": وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا، فنأخذه منهم، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم، ولكنا وفّيناهم أجور أعمالهم، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم، تفضلاً منا عليهم. والألت في كلام العرب: النقص والبخس... عن سعيد بن جُبَير "وَما أَلَتْناهُمْ" قال: وما ظلمناهم.
وقوله: "كُل امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" يقول: كلّ نفس بما كسبت وعملت من خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد والذرية يوجِب تَنَغص العيش...
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}. أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا. وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا. {كُلُّ امْرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} مُطَالَبٌ بعمله، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين ءامَنُواْ} معطوف على {بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم...
{واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم}... فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم... {بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم...
فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم... {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولفظة {ألحقنا} تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه، إنما هو فضل الله على الجميع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان. والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم...
ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته. والتنكير في قوله: {بإيمان} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد...
وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم. و {كل امرئ} يعمّ أهل الآخرة كلهم. وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة. والمعنى: انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه. وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما: أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما: أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} ليجتمع شمل المؤمنين العائلي، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية، ما جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة...