في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

21

وعلى هذا المشهد الحاسم في مصير الذين كفروا ، وعلى مشهد الإيمان من أبناء عالم آخر . وفي ختام السورة التي عرضت مقولات الكافرين عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وعن القرآن الكريم . . يجيء الإيقاع الأخير . توجيها للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصبر عليهم ، ولا يستعجل لهم ، فقد رأى ما ينتظرهم ، وهو منهم قريب :

( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون . . )

وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم ؛ وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال ، والمعاني والإيحاءات ، والقضايا والقيم .

( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم . . )

توجيه يقال لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو الذي احتمل ما احتمل ، وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيما ، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد . الأب . والأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة . وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان ، فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .

وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .

ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة . وطريق مرير . حتى لتحتاج نفس كنفس محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في تجردها وانقطاعها للدعوة ، وفي ثباتها وصلابتها ، وفي صفائها وشفافيتها . تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين .

نعم . وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة ، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر . وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم .

( فاصبر . كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .

تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية . . ثم تطمين :

( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) . .

إنه أمد قصير . ساعة من نهار . وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة . وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار . . ثم يلاقون المصير المحتوم . ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم . وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم :

( بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) . .

لا . وما الله يريد ظلما للعباد . لا . وليصبر الداعية على ما يلقاه . فما هي إلا ساعة من نهار . ثم يكون ما يكون . . .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

أولو العزم : أصحاب الجد والصبر والثبات .

بلاغ : كفاية في الموعظة .

فاصبر أيها الرسول ، على ما أصابك من أذى وتكذيب ، كما صبر أولو العزم من الرسُل قبلك ، ولا تستعجل لهم العذابَ فهو واقعٌ بهم لا محالة ، كأنّهم يومَ يشاهدون هولَه يظنّون أنّهم ما أقاموا في هذه الدنيا إلا ساعةً من نهار .

إن هذا القرآن بلاغٌ لهم ، فيه الكفاية لمن طلب الرشد والهداية .

ثم بعد ذلك أوعد وأنذر فقال : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } .

وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالوعيد للفاسقين ، وما الله يريد ظلماً للعباد .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

والفاء في قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة { فاصبر } وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم ، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على اخبار الكفار في الآخرة ؛ وقال : المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل : هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل ، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه ، { مِنْ } بيانية كما في { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] والجار والمجرور في موضع الحال من { الرسل } فيكون أولوا العزم صفة جميعهم ، وإليه ذهب ابن زيد . والجبائي . وجماعة أي { فاصبر كَمَا صَبَرَ } الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها . وعن عطاء الخراساني . والحسن بن الفضل . والكلبي . ومقاتل . وقتادة . وأبي العالية . وابن جريج ، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن { مِنْ } للتبعيض فأولوا العزم بعض الرسل عليهم السلام ، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال ، فقال الحسن بن الفضل : ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام ( 90 ) لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } وقيل : تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلاً . وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار . والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح . ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده . ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء . وموسى عليه السلام قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال : { إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقيل : سبعة آدم . ونوح . وإبراهيم . وموسى . وداود . وسليمان . وعيسى عليهم السلام ، وقيل : ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح . وهود . وصالح . وموسى . وداود . وسليمان ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال : هم نوح . وإبراهيم . وإسحق . ويعقوب . ويوسف . وأيوب . وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح . وهود . وإبراهيم . وشعيب . وموسى عليهم السلام .

وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد . وابن المنذر عنه أنهم نوح . وإبراهيم . وموسى . وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال .

وقول الجلال السيوطي : إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروى عن أبي جعفر . وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال :

أولو العزم نوح والخليل الممجد *** وموسى وعيسى والحبيب محمد

مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسى نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك ، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد . وأبو الشيخ . والبيهقي في شعب الإيمان . وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح . وإبراهيم . وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم ، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الاطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل : فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقاً كما صبر إخوانك الرسل قبلك { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا { إِلاَّ سَاعَةً } يسيرة { مّن نَّهَارٍ } لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته . وقرأ أبي { مّنَ النهار } وقوله تعالى : { بَلاَغٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظته به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول ، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة . وأيد تفسير { بَلاَغٌ } بتبليغ بقراءة أبي مجاز . وأبي سراج الهذلي { بَلَغَ } بصيغة الأمر له صلى الله عليه وسلم ، وبقراءة أبي مجاز أيضاً في رواية { بَلَغَ } بصيغة الماضي من التفعيل ، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى : { متاع قَلِيلٌ } [ آل عمران : 197 ] وقال أبو مجاز : { بَلاَغٌ } مبتدأ خبره قوله تعالى : { لَهُمْ } السابق فيوقف على { وَلاَ تَسْتَعْجِل } ويبتدأ بقوله تعالى : { لَهُمْ } وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر ؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب ؛ وهو ضعيف جداً لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق { لَهُمْ } بتستعجل . وقرأ الحسن . وزيد بن علي . وعيسى { بَلاَغاً } بالنصب بتقدير بلغ بلاغاً أو بلغنا بلاغاً أو نحو ذلك . وقرأ الحسن أيضاً { بَلاَغٌ } بالجر على أنه نعت لنهار .

{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة ، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها . وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه يهلك بفتح الياء وكسر اللام وعنه أيضا يهلك بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها وقرأ زيد بن ثابت نهلك بنون العظمة من الإهلاك القوم الفاسقين بالنصب وهذه الآية أعني قوله تعالى : كأنهم إلى ألآخرجاء في بعض الآثار ما يشعر بأن لها خاصيةمن بين آي هذه السورة وأخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إليه إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم ، وتم يقينهم ، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم .

فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة ، وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله مقيما على جهاد أعداء الله صابرا على ما يناله من الأذى ، حتى مكن الله له في الأرض وأظهر دينه على سائر الأديان وأمته على الأمم ، فصلى الله عليه وسلم تسليما .

وقوله : { وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم فلا يستخفنك بجهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك فإن كل ما هو آت قريب ، و { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل .

{ بَلَاغٌ } أي : هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل .

أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلاغ لكم ، وزاد إلى الدار الآخرة ، ونعم الزاد والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الأليم ، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم .

{ فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعقوبات { إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل .

وأعذر الله لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل الله العصمة .

آخر تفسير سورة الأحقاف ، والحمد لله رب العالمين

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

قوله : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } ذلك أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي بإخوانه المرسلين الذين احتملوا المكاره والشدائد وصبروا على مساءات أقوامهم وشرورهم . وخص منهم أرباب الثبات والبأس وقوة الاحتمال وهم أولو العزم ، أي الحزم والصبر والثبات ، وهم على الراجح خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام .

قوله : { ولا تستعجل لهم } أي بالدعاء عليهم أن يحيق بهم العذاب بل اصبر واحتمل كما صبر المرسلون المقربون أولو الجد والهمم العالية ، فعسى أن يؤمنوا فتنشأ عنهم أمم وأجيال على منهج الله وعقيدة الإسلام .

قوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } إذا عاين الخاسرون النار وأيقنوا أنها مستقرهم ومأواهم أحسوا حينئذ كأنهم لم يلبثوا في دنياهم غير ساعة من ساعات النهار { بلاغ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا بلاغ . ويجوز النصب على أنه مصدر{[4221]} يعني هذا الذي وعظتم به فيه كفاية لكم من الذكرى .

قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أي هل يهلك إلا الخارجون عن أمر الله أو عن الاتعاظ بهذا البلاغ والعمل بمقتضاه . وبذلك لا يهلك بعذاب الله إلا الضالون الخارجون عن طاعة ربهم . وقيل : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : هذه الآية أقوى آية في الرجاء{[4222]} .


[4221]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 373.
[4222]:فتح القدير جـ 5 ص 27 وتفسير الرازي جـ 28 ص 34 – 36.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مثبته على المضيّ لما قلّده من عبْءِ الرسالة، وثقل أحمال النبوّة صلى الله عليه وسلم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد فاصْبِرْ يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار "كمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ "على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره، ما نالهم فيه من شدّة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بالمِحَن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم...

وقوله: "وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" يقول: ولا تستعجل عليهم بالعذاب، يقول: لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة.

"كأنّهُمْ يومَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ" يقول: كأنهم يوم يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منزله بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، لأنه ينسيهم شدّة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين والشهور...

وقوله: "بَلاغٌ" فِيهِ وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذفت ذلك لبث، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر: أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكّروا واعتبروا فتذكروا. وقوله: "فَهَلْ يُهْلَكُ إلاّ القَوْمُ الفاسِقُونَ" يقول تعالى ذكره: فهل يهلك الله بعذابه إذا أنزله إلا القوم الذين خالفوا أمره، وخرجوا عن طاعته وكفروا به. ومعنى الكلام: وما يهلك الله إلا القوم الفاسقين...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يُلزم الرسل الصبر من وجوه ستة: ثلاثة مما خُصّوا هم بها، لا يشرُكُهم غيرهم فيها، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها؛ فأما الثلاثة التي خُصّوا بها: فإحداها: أنهم بُعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمُّهم القتل وإهلاك من خالفهم، وعصى أمرهم ومذهبهم، فلم يُعذروا في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل. فأما غيرهم من الناس فقد أُبيح لهم كتمان الدين الحق عنهم حتى لا يُهلكوا. والثانية: ألزمهم الصبر بالمُقام بين أظهُر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من الاستهزاء بهم والافتراء عليهم والتكذيب لهم وأنواع الأذى الذي كان منهم إلى الرسل، لم يأذن لهم بمفارقتهم، لذلك قال: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48] لم يكن منه سوى الخروج من بين قومه لسلامة دينه لو لم يسلم، ثم أصابه ما أصابه بذلك الخروج لما لم يُؤذن [له] بالخروج، والله أعلم. والثالثة: لم يجعل لهم الدعاء على أقوامهم بالهلاك والعذاب، وإن كان منهم من التمرّد والتعنّت ما كان. فهذه الثلاثة من المعاملة مما خصّ من الرسل عليهم السلام بها من بين سائر الناس. وأما الثلاثة التي يشترك فيها غيرهم. فإحداهما: أُمروا بالصبر على ما يصيبهم، وينزل بهم من البلايا والشدائد. والثانية: أُمروا بالمحافظة على العبادات التي جُعلت عليهم والمحافظة على حدودها والصبر على القيام بها. والثالثة: أُمروا بالصبر على ترك قضاء الشهوة وترك إعطاء النفس هواها. فهذه الثلاثة لهم في ما بينهم وبين ربهم، وهي مما يشترك فيها غيرهم. والثلاثة الأولى في ما بينهم وبين الخلق، وهم قد خُصّوا بتلك الثلاثة دون غيرهم، والله أعلم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

والصبرُ هو الوقوفُ لحُكْمِ الله، والثباتُ من غير بثٍ ولا استكراهٍ.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{فهل يهلك} بالعذاب إذا نزل {إلا القوم الفاسقون} الخارجون من أمر الله. قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية...

.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلاَ تَسْتَعْجِل} لكفار قريش بالعذاب، أي: لا تدع لهم بتعجيله؛ فإنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر، وأنهم مستقصرون حينئذٍ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها {سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة. أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام {فَهَلْ يُهْلَكُ} إلا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه. ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ: بلغ فهل يهلك: وقرىء «بلاغاً»، أي بلغوا بلاغاً: وقرىء «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وفتحها، من هلك وهلك. ونهلك بالنون {إِلاَّ القوم الفاسقون}...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

. {بلاغ} هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أي: على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال، وأشهرها أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سُورَتَي "الأحزاب "و "الشورى"،... وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم...

[وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها]...

وقوله: {بَلاغٌ} قال ابن جرير: يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون تقديره: وذلك لَبثَ بلاغ. والآخر: أن يكون تقديره: هذا القرآن بلاغ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فاصبر} أي على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة...

{كما صبر أولوا العزم} أي الجد في الأمر والحزم في الجد والإرادة المقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه، الذين مضوا في أمر الله مضياً كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد في جبلته والرجل الشديد الشجاع المحفوف بقبيلته...

{من الرسل} عليهم الصلاة والسلام، وقيل وهو ظاهر جداً: أن "من "للتبعيض، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها، ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين...

{ولا تستعجل لهم} أي تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة، سهله بقوله مستأنفاً: {كأنهم يوم يرون} أي في الدنيا عند الموت مثلاً أو في الآخرة وقت العرض والحساب والهول الأعظم الأكبر الذي تقدمت الإشارة إليه جداً والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا {ما يوعدون} من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة، وبناه للمفعول لأن المنكئ هو الإيعاد لا كونه من معين {لم يلبثوا} أي في الدنيا حيث كانوا عالين {إلا ساعة}. ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل، حقق أمرها وحقرها بقوله: {من نهار} ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ببيان ما هو مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس، وكان مقصودها آئلاً إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو التوحيد اللازم منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت بما ختمت به إبراهيم إلا أن للحواميم لباباً، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل: {بلاغ} أي هذا الذي- ذكر هنا هو- من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم...

{فهل يهلك} بني للمفعول من أهلك، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك، وللدلالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جداً {إلا القوم} الذين فيهم أهلية القيام بما يحاولونه من اللدد {الفاسقون} أي العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة...

.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم، وتم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. ولا تستعجل لهم..) توجيه يقال لمحمد [صلى الله عليه وسلم] وهو الذي احتمل ما احتمل، وعانى من قومه ما عانى. وهو الذي نشأ يتيما، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد...

. (فاصبر. كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم.. تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية.. ثم تطمين: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار).. إنه أمد قصير. ساعة من نهار. وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة. وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار.. ثم يلاقون المصير المحتوم. ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم. وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم: (بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).. لا. وما الله يريد ظلما للعباد. لا. وليصبر الداعية على ما يلقاه. فما هي إلا ساعة من نهار. ثم يكون ما يكون ...

...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فاصبر كما صبروا. وأولوا العزم: أصحاب العزم، أي المتصفون به. والعزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد...

.وعلى هذا تكون {مِن} في قوله: {من الرسل} تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال: كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون {مِن} بيانية. وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة. وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة. ومفعول {تستعجل} محذوف دل عليه المقام، تقديره: العذاب أو الهلاك. واللام في {لهم} لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير: لا تستعجل لهلاكهم. وجملة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله... و {من نهار} وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله. فالتنكير للتقليل...

. {بلاغ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا بلاغ، على طريقة العنوان ...

... {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون}...

. والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى}، وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة: وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين. وتعريف {القوم} تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل. والتعبير بالمضارع في قوله: {فهل يُهلَك} على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم. ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} الآية، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك. والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك. وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} فإن الدعوة التي تسعى إلى التغيير الشامل للحياة وللإنسان، فكرياً وعملياً، لا بد من أن تصطدم بألوف العقبات، وتواجه الكثير من المشاكل، وتلتقي بالصعوبات الكبيرة في ساحة التحديات، لتصل إلى بعض النتائج الإيجابية الحاسمة مرحلياً أو بشكل كامل. ولست بأوّل الرسل الذين يواجههم قومهم، أو تستقبلهم أمتهم بالكفر والتكذيب والعناد والاضطهاد، فاصبر كما صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، الذين ذكرهم حديث أئمة أهل البيت بأنهم هم أولو العزم، أو كما صبر الرسل من قبلك، فقد جاء عن بعض المفسرين أن أولي العزم هم جميع الرسل، ولا تتعقد وتنفعل، أو تتراجع، وتابع مسيرتك حتى النهاية، {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} العذاب فتدعو عليهم، نتيجة ضيق صدرك بهم في بعض الحالات، فإن هناك أملاً في هدايتهم للإيمان بالله والالتزام بدينه. فبعض الناس قد يحتاج إلى أمدٍ طويلٍ لتخفيف مقاومته النفسية، أو لإبعاده عن المؤثرات العاطفية، أو الرواسب التاريخية، أو فصله عن الجو الذي يعيش فيه، وغيرها من عوامل تفرض عليه عدم الإذعان للحق، ولذلك فلا بد للدعاة إلى الله من أن يرسموا خططاً متحركة على مستوى المراحل والظروف من الزمان والمكان والأشخاص، لاحتواء الساحة كلها في جميع الأوضاع. أمّا إذا أصروا على الكفر والعناد، فإن الله سوف يجمعهم لعذابه، فلا داعي لاستعجال العذاب، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} لأن الإحساس بالحاضر الذي يختزن العذاب في داخله، ويحرق بناره كل حياة الإنسان، سوف يختصر الزمن كله في إحساس الإنسان، بحيث لا يشعر إلاّ وكأنه لم يلبث إلا ساعةً من نهار، هذا {بَلاغٌ} للناس {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الذين استحقوا الهلاك بفسقهم في العقيدة وفي العمل؟...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا،...

وخلاصة القول: إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والاستقامة والثبات...

. فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً. وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الفئة، لأنّها تقول: (فاصبر كما صبر أولو العزم). وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة، وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة ...

...

(ولا تستعجل لهم) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشدّ العذاب، وعندها سيطلعون على أخطائهم، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي. إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: (كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار). إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلاّ ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعاً، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعاً حتى كأنّها لم تكن إلاّ ساعة، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلاّ ساعة لا أكثر. هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء، ولات حين ندم، إذ لا سبيل الى الرجوع... وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير. ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ» لكلّ أُولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى.. لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء، والعابدين شهواتها.. وأخيراً هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني. وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى، وينطوي على التهديد: (فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون).

...