( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظن السوء ، وكنتم قوما بورا ) . .
وهكذا يقفهم عرايا مكشوفين ، وجها لوجه أمام ما أضمروا من نية ، وما ستروا من تقدير ، وما ظنوا بالله من السوء . وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون إلى حتفهم ، فلا يرجعون إلى أهليهم بالمدينة ؛ وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم ! - يشيرون إلى أحد والأحزاب - ولم يحسبوا حسابا لرعاية الله وحمايته للصادقين المتجردين من عباده . كما أنهم - بطبيعة تصورهم للأمور وخلو قلوبهم من حرارة العقيدة - لم يقدروا أن الواجب هو الواجب ، بغض النظر عن تكاليفه كائنة ما كانت ؛ وأن طاعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يجب أن تكون بدون النظر إلى الربح الظاهري والخسارة الشكلية ، فهي واجب مفروض يؤدى دون نظر إلى عاقبة أخرى وراءه .
لقد ظنوا ظنهم ، وزين هذا الظن في قلوبهم ، حتى لم يروا غيره ، ولم يفكروا في سواه . وكان هذا هو ظن السوء بالله ، الناشئ من أن قلوبهم بور . وهو تعبير عجيب موح . فالأرض البور ميتة جرداء . وكذلك قلوبهم . وكذلك هم بكل كيانهم . بور . لا حياة ولا خصب ولا إثمار . وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله ? لأنه انقطع عن الإتصال بروح الله ? يكون بورا . ميتا أجرد نهايته إلى البوار والدمار .
وكذلك يظن الناس بالجماعة المؤمنة . الناس من أمثال أولئك الأعراب المنقطعين عن الله . البور الخالية قلوبهم من الروح والحياة . هكذا يظنون دائما بالجماعة المؤمنة عندما يبدو أن كفة الباطل هي الراجحة ، وأن قوى الأرض الظاهرة في جانب أهل الشر والضلال ؛ وأن المؤمنين قلة في العدد ، أو قلة في العدة ، أو قلة في المكان والجاه والمال . هكذا يظن الأعراب وأشباههم في كل زمان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبدا إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة . ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة ؛ ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك ! ولكن الله يخيب ظن السوء هذا ؛ ويبدل المواقف والأحوال بمعرفته هو ، وبتدبيره هو ، وحسب ميزان القوى الحقيقية . الميزان الذي يمسكه الله بيده القوية ، فيخفض به قوما ويرفع به آخرين ، من حيث لا يعلم المنافقون الظانون بالله ظن السوء في كل مكان وفي كل حين !
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام ، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول ، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال : { بل } أي ليس تخلفكم لما{[60265]} أخبرتم به من الاشتغال بالأهل{[60266]} والأموال { ظننتم } وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ، ليس لكم نفوذ إلى البواطن ، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال : { أن لن ينقلب } ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث والمسير ، قال مشيراً إلى أن-{[60267]} من أرسل رسولاً إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزاً عما يريد : { الرسول } وعظم التابعين فقال : { والمؤمنون } معبراً{[60268]} بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ{[60269]} وأفهم تأكيد{[60270]} ذلك عندهم بقوله تعالى{[60271]} : { إلى أهليهم أبداً } أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على{[60272]} أن قلتم : ما هم في قريش إلا أكلة رأس .
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب ، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة : { وزين ذلك } أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا { في قلوبكم } حتى أحببتموه .
ولما علم أن ذلك سوء ، صرح{[60273]} به على وجه يعم غيره فقال : { وظننتم } أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه { ظن السوء } أي الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به . ولما-{[60274]} انكشف جميع أمره كشف أثره فقال : { وكنتم } أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة { قوماً } أي مع قوتكم على ما تحاولونه { بوراً * } أي في غاية الهلاك والكساد والفساد ، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد ، {[60275]}فلا انفكاك لهم عنه ، وهذا{[60276]} كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير ، وثبتوا فلم يرتدوا .
{ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ( 12 ) }
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل ، بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون ، ولا يَرْجعون إليكم أبدًا ، وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم ، وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم .
قوله : { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } وهذه مفسرة للجملة التي قبلها . فقد كشف الله هؤلاء المنافقين المخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فضحهم وأظهر ما تكنه صدورهم من سوء النوايا . والمعنى : أنكم أيها المخلفون المنافقون ظننتم أن لن يرجع محمد وأصحابه عقب هذه السفرة بل سيستأصلهم المشركون بالكلية فلا يرجع منهم أحد . وكانوا يقولون : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون .
قوله : { وزين ذلك في قلوبكم } الإشارة عائدة إلى نفاقهم وما يخفونه في نفوسهم من الظنون والأماني باستئصال المسلمين . والمعنى : وزين هذا النفاق والظن في قلوبكم ، إذ زينه لكم الشيطان فرأيتموه حسنا .
قوله : { وظننتم ظن السّوء } أي ظننتم أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم ، والذين آمنوا معه ، وأن المشركين سوف يستأصلون شأفتهم البتة . { وكنتم قوما بورا } البور معناه الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه . وكذا المرأة البور التي لا خير فيها{[4258]} ، أي كنتم قوما هلكى ، أو فاسدين أشرارا لا خير فيكم .