( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) .
وليس له أن يرد بالسيئة ، فإن الحسنة لا يستوي أثرها - كما لا تستوي قيمتها - مع السيئة والصبر والتسامح ، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر ، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة ، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ، ومن الجماح إلى اللين :
( ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) .
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات . وينقلب الهياج إلى وداعة . والغضب إلى سكينة . والتبجح إلى حياء ؛ على كلمة طيبة ، ونبرة هادئة ، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام !
ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضباً وتبجحاً ومروداً . وخلع حياءه نهائياً ، وأفلت زمامه ، وأخذته العزة بالإثم .
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد . وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها . حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً . ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه ، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً .
وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية . لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها . فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها . أو الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وهذه الدرجة ، درجة دفع السيئة بالحسنة ، والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب ، والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى . . درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان . فهي في حاجة إلى الصبر . وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون :
ادفع بالتي هي أحسن : رُدَّ الإساءة باللين والحسنى .
وبعد ذلك أعقب بالدعوة إلى حسن المعاملة بين الناس فقال :
{ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة }
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة ، ادفعْ أيها المؤمن الإساءة إن جاءتك بالقول الحسن والّلِين ، فإذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما ، وناصرا مخلصا .
{ 34 - 35 } { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
يقول تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } أي : لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى ، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه ، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ، ولا الإساءة إليهم ، لا في ذاتها ، ولا في وصفها ، ولا في جزائها { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }
ثم أمر بإحسان خاص ، له موقع كبير ، وهو الإحسان إلى من أساء إليك ، فقال : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ، خصوصًا من له حق كبير عليك ، كالأقارب ، والأصحاب ، ونحوهم ، إساءة بالقول أو بالفعل ، فقابله بالإحسان إليه ، فإن قطعك فَصلْهُ ، وإن ظلمك ، فاعف عنه ، وإن تكلم فيك ، غائبًا أو حاضرًا ، فلا تقابله ، بل اعف عنه ، وعامله بالقول اللين . وإن هجرك ، وترك خطابك ، فَطيِّبْ له الكلام ، وابذل له السلام ، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان ، حصل فائدة عظيمة .
{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي : كأنه قريب شفيق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ" يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فأحسنوا في قولهم، وإجابتهم ربهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه، وسيئة الذين قالوا: "لا تَسْمَعُوا لَهَذا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ "فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم، ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما، وقال جلّ ثناؤه: "وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ" فكرّر "لا"، والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة، لأن كلّ ما كان غير مساوٍ شيئا، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه، كما أن كلّ ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو، مساوٍ له، فيقال: فلان مساو فلانا، وفلان له مساو، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان، ولا فلان مساويا له، فلذلك كرّرت لا مع السيئة، ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا...
وإنما عُنِي بقوله: "وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ" ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته، والشرك به والعمل بمعصيته.
وقوله: "ادْفِعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم، ويلقاك من قبلهم...
وقال آخرون: معنى ذلك: ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته...
وقوله: "فإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَوَاةٌ كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ" يقول تعالى ذكره: افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه من ملاطفته إياك، وبرّه لك، وليّ لك من بني أعمامك، قريب النسب بك، والحميم: هو القريب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}... لا تستوي الحسنة والسيئة في جلب حبّ القلوب واللّين والعطف لها، بل الحسنة تجلُب حبّ القلوب، بل هما مختلفان متفرّقان، فادفع سيئتهم بالحسنة، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} يُشْبِه الوليَّ الحميمَ -ولم يَصِرْ ولياً مخلصاً.. وهذا من جملة حُسْنِ الأدب في الخدمة في حقِّ صحبتك مع الله؛ تحلم مع عباده لأَجْلِه. ومن جملة حُسْن الخُلُق في الصحبة مع الخَلْقِ ألا تنتقم لنفسك، وأَنْ تعفوَ عن خصمك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني: أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ الحسنة التي هي أحسن من أختها -إذا اعترضتك حسنتان- فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك... فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك.
ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلاّ أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت: فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل ادفع بالتي هي أحسن.
وقيل: (لا) مزيدة. والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة. فإن قلت: فكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة، قلت: أجل، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، وينقلب الهياج إلى وداعة. والغضب إلى سكينة. والتبجح إلى حياء؛ على كلمة طيبة، ونبرة هادئة، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام! ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضباً وتبجحاً ومروداً. وخلع حياءه نهائياً، وأفلت زمامه، وأخذته العزة بالإثم. غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها. حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً. ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً. وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية. لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها. أو الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وهذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب، والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى.. درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان. فهي في حاجة إلى الصبر. وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة}... في التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله: {ادْفَع بالتي هي أحسن}، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله: {ادْفَعَ بالتي هي أحسن}.
{ادْفَعَ بالتي هي أحسن} يجري موقعُه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}.
فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة {ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة} تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخُلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبةِ أَن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاداً من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى. وهي على الوجه الثاني من وجهيْ موقع جملة {ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصدِ من المقدمة، فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها.
وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة {ادفَع بالتي هي أحْسَن} مفصولة غير معطوفة.
وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه (كان خلقه القرآن) لأنه أفضل الحكماء.
والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محموداً في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص. والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة: « ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله». وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه} [الشورى: 40].
وروى عياض في « الشفاء» وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في « تفسيره» لما نزل قوله تعالى: {خذ العفو} [الأعراف: 199] سألَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال: « يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك».
ومفعول {ادْفَع} محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعاً بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير: ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} في سورة الرعد (22) وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} في سورة المؤمنين (96).
و {التي هي أحسن} هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها؛ لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك.
وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح». وقد قيل: إن ذلك وصفه في التوراة. وفرع على هذا الأمر قوله: {فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عداوة كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ} لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان. ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها. وأَمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه.
ولذكر المُثُل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.
و (إذا) للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقاً. وعدل عن ذكر العَدوّ معرفاً بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونِها، كما أن ظرف {بَيْنَك وبَيْنَه} يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طُرُوَّها.
وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإِحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمحِسِن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفاً، وتمكناً وبعداً، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قوياً بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها. ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
والتشبيه في قوله: {كأنَّه وليُّ حَميمٌ}، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوتُ الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإِحسان وتفاوت قوة العداوة قبلَ الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليّاً حميماً، فإنْ صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإِسراع الذي آذنتْ به (إذا) الفجائية. والعداوةُ التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعدَ الكفر فزالت عداوتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، أي وستزيدِين حباً.
وعن مقاتل: أنه قال: هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدواً للنبيء صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه ولياً مصافياً. وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإِحسان.
والولي: اسم مشتق من الوَلاية بفتح الواو، والولاء، وهو: الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن.
والحميم: القريب والصديق. ووجه الجمع بين {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أنه جمَع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة.
قوله تعالى : " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " قال الفراء : " لا " صلة أي " ولا تستوي الحسنة والسيئة " وأنشد :
ما كان يَرْضَى رسولُ الله فعلَهم *** والطَّيِّبَانِ أبو بكر ولا عمرُ
أراد أبو بكر وعمر ، أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد ، وما المشركون عليه من الشرك . قال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك . وقيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة الشرك . وهو الأول بعينه . وقيل : الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة . وقيل : الحسنة العفو ، والسيئة الانتصار . وقال الضحاك : الحسنة العلم ، والسيئة الفحش . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الحسنة حب آل الرسول ، والسيئة بغضهم . " ادفع بالتي هي أحسن " نسخت بآية السيف ، وبقي المستحب من ذلك : حسن العشرة والاحتمال والإغضاء . قال ابن عباس : أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك . وعنه أيضا : هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك . وكذلك يروى في الأثر : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه . وقال مجاهد : " بالتي هي أحسن " يعني السلام إذا لقي من يعاديه ؛ وقال عطاء . وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة . وفي الأثر : ( تصافحوا يذهب الغل ) . ولم ير مالك المصافحة ، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان : قد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة ، فقال له مالك : ذلك خاص . فقال له سفيان : ما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما عمه يعمنا ، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها . وقد روى قتادة قال : قلت لأنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وهو حديث صحيح . وفي الأثر : ( من تمام المحبة الأخذ باليد ) . ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدم ، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه - والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبله .
قلت : قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء . وقد مضى ذلك في " يوسف " {[13439]} وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما ) .
قوله تعالى : " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي قريب صديق . قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة . وقيل : هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه . ذكره الماوردي . والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر ؛ لقوله تعالى : " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " . وقيل : كان هذا قبل الأمر بالقتال . قال ابن عباس : أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم . وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي : يا قنبر دع شاتمك ، واله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان ، وتعاقب شاتمك ، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه . وأنشدوا :
وللكَفُّ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمًا *** أضَرُّ له من شَتْمِهِ حين يُشْتَمُ
وما شيءٌ أحبُّ إلى سَفِيهٍ *** إذا سَبَّ الكريمَ من الجَوابِ
مُتَارَكةُ السفيه بلا جَوَابٍ *** أشدُّ على السفيه من السِّبَابِ
وقال محمود الوراق{[13440]} :
سأُلزِم نفسي الصَّفْحَ عن كل مُذْنِبٍ *** وإن كَثُرَتْ منهُ لدَيَّ الجَرَائِمُ
فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة *** شريفٌ ومَشْرُوفٌ ومِثْلٌ مُقَاوِمُ
فأما الذي فوقي فأعرِفُ قَدْرَهُ *** وأَتْبَعُ فيه الحَقَّ والحقُّ لازمُ
وأما الذي دوني فإن قال صُنْتُ عن *** إجابته عِرْضِي وإن لاَمَ لائمُ
وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هَفَا *** تَفَضَّلْتُ إن الفضلَ بالحِلْمِ حَاكِمُ
ولما كان التقدير : لا أحد أحسن قولا منه ، بل هو المحسن وحده ، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً ، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله ، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى ، وغير ذلك من جميع الأخلاق ، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال : { ولا تستوي } أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار { الحسنة } أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها ، لتفاوت الحسنات في أنفسها ، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها ، وإلى ذلك أشار بالتأكيد في قوله : { ولا السيئة } أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر .
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء ، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات ، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها ، أنتج عند قصد الأعلى فقال : { ادفع } أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس { بالتي } أي الخصال والأحوال التي { هي أحسن } على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن ، والإحسان أحسن منه { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه { كأنه ولي } أي قريب ما يفعل القريب { حميم * } أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره ، وشفا علله ، وقرب بعيده ، وأزال درنه ، كما يزيل الماء الحار الوسخ .
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } في جزئياتهما بعضهما فوق بعض { ادفع } السيئة { بالتي } أي بالخصلة التي { هي أحسن } كالغضب بالصبر والجهل بالحلم والإساءة بالعفو { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } أي فيصير عدوك كالصديق القريب في محبته إذا فعلت ذلك فالذي مبتدأ وكأنه الخبر وإذا ظرف لمعنى التشبيه .
قوله : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي لا يستوي التوحيد والشرك ، ولا تستوي الطاعة والمعصية ، أو لا يستوي الحق والباطل ولا الهدى والضلال . وقيل : الحسنة ههنا بمعنى العفو والرفق ، والسيئة : الفحش والغلظة ؛ والأولى بالصواب أن الآية تعم كل هذه المعاني فإنه لا تستوي الحسنة بكل وجوهها ، من توحيد وعدل وفضيلة واستقامة ورحمة ، ولا السيئة بكل صورها وأجناسها من الإشراك والعصيان والضلال والظلم والفحش فهما كلاهما لا يستويان .
قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قال ابن عباس : ادفع بحلمك جهل من جهل عليك ، وقال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم . وعنه أيضا : هو الرجل يسبُّ الرجل فيقول الآخر : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كننت كاذبا فغفر الله لك ، وروي في الأثر : أن أبا بكر قال ذلك لرجل نال منع شرا . أي عفا عنه وقال له خيرا ، وقيل : التي هي أحسن ، يعني السلام إذا لقي من يعاديه . وقال ابن العربي : المراد به المصافحة ، وفي الأثر : " تصافحوا يذهب الغلُّ " وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة . وبذلك فإن المصافحة ثابتة ولا وجه لإنكارها ، وقد سئل أنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وفي الأثر : من تمام المحبة ، الأخذ باليد ، ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجرُّ ثوبه ، فاعتنقه وقَبَّله .
وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما " .
قوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } يعني : بهذا الذي أمرتك به من دفع الإساءة بالعفو والإحسان يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ، كأنه قريب صديق ، وهذه معلومة لا شك فيها ، وهي أن العفو والصفح عن المسيء ثم الإحسان إليه يسوقه – طواعية – إلى الندم ومراجعة النفس ليبادر خصمه المودة والملاطفة بعد ضغينة وجفاء ، وهذه حقيقة تتجلى ظاهرة مكشوفة في المتخاصمين المتباغضين من الناس إذا بادر أحدهم الآخر ، الإحسان والصفح . لا جرم أن الإحسان للآخرين من الخصوم وملاطفتهم بالمودة والرحمة يفجِّر في أعماقهم نوازع الخير التي جُبل عليها الناس ، على تفاوت بينهم .
وتلكم هي طبيعة الإنسان المشحونة بنوازع الخير والرحمة والجنوح للندامة والحياء ، ظواهر إنسانية كريمة تثيرها وتهيجها بواعث كثيرة وفي طليعتها العفو ومقابلة الإساءة بالإحسان ؛ على أن ذلك يقال في الأسوياء من البشر أولي الطبائع السليمة والفِطر السَّوية المستقيمة ، أما الجانحون للخسَّة والإيذاء والشر ، أولو الطبائع المعوجة ، والفطر المنحرفة السقيمة ، والنفوس التي استحوذ عليها الرانُ والشذوذ والانحراف ، فإنها أبعد الخلق عن التأثر بالإحسان والاستجابة لخصال اللين والرأفة والتسامح .