ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين ) . .
وما ألَتناهم من عملهم : ما أنقصناهم .
هم وذريّاتهم الطيبة ، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم ، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح .
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات . وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع . والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع .
{ 21-28 } { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
وهذا من تمام نعيم أهل الجنة ، أن ألحق الله [ بهم ] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي : الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم ، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان ، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم ، فهؤلاء المذكورون ، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها ، جزاء لآبائهم ، وزيادة في ثوابهم ، ومع ذلك ، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئا ، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك ، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم ، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكما واحدا ، فإن النار دار العدل ، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحدا إلا بذنب ، ولهذا قال : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : مرتهن بعمله ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ، ولا يحمل على أحد ذنب أحد . هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور .
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } يريد أنه يلحق الأولاد بدرجة الآباء في الجنة اذا كانوا على مراتب وكذلك الآباء بدرجة الأبناء لتقر بذلك أعينهم فيلحق بعضهم بعضا اذا اجتمعوا في الايمان من غير أن ينقص من أجر من هو أحسن عملا شيئا بزيادته في درجة الأنقص عملا وهو قوله { وما ألتناهم } أي وما نقصناهم { من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب }
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } معنى الآية : ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، فذلك كرامة للأبناء بسبب الآباء " ، قيل : إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا ، وقيل : على الإطلاق في الأبناء المؤمنين ، وبإيمان في موضع الحال من الذرية ، والمعنى أنهم اتبعوا آباءهم في الإيمان ، وقال الزمخشري : إن هذا المجرور يتعلق بألحقنا ، والمعنى عنده بسبب الإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ، والأول أظهر ، فإن قيل : لم قال بإيمان بالتنكير ؟ فالجواب : أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلا لدرجة آبائهم ولكنهم لحقوا بهم كرامة للآباء ، فالمراد تقليل إيمان الذرية ولكنه رفع درجتهم فكيف إذا كان إيمانا عظيما .
{ وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي : ما أنقصناهم من ثواب أعمالهم بل وفينا لهم أجورهم ، وقيل : المعنى ألحقنا ذريتهم بهم وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم بسبب ذلك بل فعلنا ذلك تفضلا زيادة إلى ثواب أعمالهم والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا ، وقيل : إنه يعود على الذرية .
{ كل امرئ بما كسب رهين } أي : مرتهن ، فإما أن تنجيه حسناته ، وإما أن تهلكه سيئاته .
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم ، أتبعهم من هو أدنى منهم حالاً لتكون النعمة تامة فقال : { والذين آمنوا } يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة . ولما كان من هؤلاء من لا يتبعه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه ، عطف على فعلهم تمييزاً لهم واحترازاً عمن لم يثبت قوله : { واتّبعتهم }{[61555]} أي بما لنا من الفضل الناشىء عما لنا من العظمة { ذرياتهم }{[61556]} الصغار والكبار وإن كثروا ، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمان آبائهم { بإيمان } أي بسب إيمان حاصل منهم ، ولو كان في أدنى درجات الإيمان ، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا ، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات ، ويجوز أن يراد وهو أقرب : بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كباراً ، وحكماً إن كانوا صغاراً ، ثم أخبر عن الموصول بقوله : { ألحقنا بهم } أي فضلنا لأجل عمل آبائهم { ذرياتهم }{[61557]} وإن لم يكن للذرية أعمال ، لأنه قيل في المعنى : " ولأجل عين ألف عين تكرم " ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر ، فتكون{[61558]} ذرية الإفادة كذرية الولادة ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" المرء مع من أحب " في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم .
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئاً من درجاتهم ، قال : { وما ألتناهم } أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم { من عملهم } وأكد النفي بقوله : { من شيء } بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم ، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب ، قال جامعاً للفريقين ، أو يقال - و{[61559]}لعله أقرب - أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلاً ، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله : { كل امرىء } أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم { بما كسب } أي من ولد وغيره { رهين * } أي مسابق ومخاطر ومطلوب وآخذ شيئاً بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصياً ، فمن كان صالحاً كان آخذاً بسبب صلاح{[61560]} ولده لأنه كسبه ، ولا يؤخذ به ذلاً وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان حقيقة أو حكماً وكل حسن مرتفع ، فلذلك يلتحق بأبيه ، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره ، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه ، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها ، قال الرازي في اللوامع : اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها ، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم ، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها ، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين ، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين ، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة ، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعلم الحق ، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد ، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته ، لو أحب أحدكم حجراً لحشر معه ، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله ، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة ، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم{[61561]} آبائهم جارياً عليهم وحكم القيامة نافذاً فيهم ، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلاً وباطلاً ينقص أوله آخره وآخره أوله ، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي ، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت ، فهي على استحالة بين الموت والحياة ، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها }[ النساء :56 ] انتهى . وهو كما ترى في غاية النفاسة ، ويؤيده " يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها من النفي ، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون " كل امرىء " قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه { بما كسب } أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره " رهين " أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح .