استكباراً في الأرض ومكر السيىء ! . .
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم : استكباراً في الأرض ومكر السيىء . والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك . ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله . .
فما يصيب مكرهم السيى ء أحداً إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم .
وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم . وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :
( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) . .
" استكبارا " أي عتوا عن الإيمان " ومكر السيئ " أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم . وأنث " من إحدى الأمم " لتأنيث أمة . قاله الأخفش . وقرأ حمزة والأخفش " ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ " فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني . قال الزجاج : وهو لحن ، وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني . وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحِبْ قَوِّم{[13176]}
فاليوم أشربْ غير مُسْتَحْقِبٍ *** إثما من الله ولا وَاغِلِ{[13177]}
وهذا لاحجة فيه ؛ لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه . وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
بوصل الألف على الأمر ، ذكر جميعه النحاس . الزمخشري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ " بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ " ولا يحيق " . وقرأ ابن مسعود " ومكرا سيئا " وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : " ومكر السيئ " فهو على تقدير الوقف عليه ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
قال القشيري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام . وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى الخطة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا . " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " أي لا ينزل عاقبه الشرك إلا بمن أشرك . وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر . وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت *** ذراعاً بعد ما كانت تَحِيقُ
أي تنزل ، وهذا قول قطرب . وقال الكلبى : " يحيق " بمعنى يحيط . والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به . وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة " من حفر لأخيه حفرة وقع فيها " ؟ فقال ابن عباس : فاني أوجدك في القرآن ذلك . قال : وأين ؟ قال : فاقرأ " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ومن أمثال العرب " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " [ الفتح : 10 ] وقال تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم " [ يونس : 23 ] وقال بعض الحكماء :
يا أيها الظالمُ في فعله *** والظلم مردود على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى *** تُحْصِي المصائبَ وتَنسى النِّعَم
وفي الحديث ( المكر والخديعة في النار ) . فقوله : ( في النار ) يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : ( وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة ) . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة .
قوله تعالى : " فهل ينظرون إلا سنة الأولين " أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين . " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره . والسنة الطريقة ، والجمع سنن . وقد مضى في " آل عمران " {[13178]} وأضافها إلى الله عز وجل . وقال في موضع آخر : " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا " {[13179]} فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ؛ وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، تارة إلى القوم ؛ قال الله تعالى : " فإن أجل الله لآت " {[13180]} [ العنكبوت : 5 ] وقال : " فإذا جاء أجلهم " . [ النحل : 61 ] .
{ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ } { اسْتِكْبَارًا } مفعول له{[3881]} أي لم يزدهم مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم إلا نفورا { اسْتِكْبَارًا } أي علوا في الأرض وعتوّا عن أمر الله { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } مكر ، منصوب على المصدر{[3882]} والمكر ههنا بمعنى الشرك . أي مكروا مكر السيئ وهو الكفر وصد الناس عن الإيمان . وبذلك قد مكروا بالناس بصدهم عن دين الله .
قوله : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } يحيق بمعنى ينزل أو يحيط ؛ أي لا تنزل عاقبة الظلم إلا بالظالم نفسه . أو لا ينزل وبال المكر السيئ إلا بالذين يمكرونه . فلا يحل مكروه ذلك المكر إلا بهؤلاء المشركين الماكرين .
ويُفهم من ذلك التنبيه على مجانبة الخداع والمكر والخيانة . فإن هذا الدين قائم على طُهر السريرة من الأرجاس النفيسة كالغل والحسد والغدر والخديعة . فإن هذه خسائس ليست من أخلاق المؤمنين الذين التزموا الإسلام عقيدة ومنهاجا . بل إن تلكم من أخلاق الكافرين والمنافقين والمرائين والماكرين .
قوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ } المراد بسنة الله ، إنزال العقاب بالمكذبين المدبرين العصاة . وهذا تهديد من الله يتوعد به كل أمة تعرض عن صراطه المستقيم وتضل عاتية مستكبرة ، فإنه مصيبها من العقاب المدمِّر ما أصاب السابقين الجاحدين . وهو قوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ } أي هل ينتظر هؤلاء المشركين الجاحدون إلا أن يحيط بهم عذاب الله كما أحاط بالمكذبين من قبلهم .
وهذه سنة الله في العتاة العصاة الذين يخالفون عن أمره .
قوله : { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } أي جعل الله العقاب في المخالفين الجاحدين سنة مقدورة فيهم بسبب تكذيبهم وعصيانهم . وهي سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا } أي لا تحويل لسنة الله في عقاب الظالمين المجرمين ، فهو حائق بهم ولن يتحول عنهم إلى غيرهم{[3883]}