في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

9

( وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ) . .

فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم . . وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري . والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر !

( ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة ) . .

يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو . متروكة بلا حماية .

وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة :

( وما هي بعورة ) . .

ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار :

( إن يريدون إلا فرارا ) . .

وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقولون : ( إن بيوتنا عورة ) ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا . ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجعإلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم [ صلى الله عليه وسلم ] فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم . إنا والله ما اصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا . . فردهم . .

فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم : ( إن يريدون إلا فرارا ) . .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

قوله تعالى : " وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " الطائفة تقع على الواحد فما فوقه . وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس ، الذي يقول فيه الشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عَرَابَةُ باليمين

و " يثرب " هي المدينة ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة . وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، والمدينة ناحية منها . السهيلّي : وسميت يثرب ؛ لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف{[12770]} . وبنو عميل{[12771]} هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها . وبها سميت الجحفة . " لا مقام لكم " بفتح الميم قراءة العامة . وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة : بضم الميم ، يكون مصدرا من أقام يقيم ، أي لا إقامة ، أو موضعا يقيمون فيه . ومن فتح فهو اسم مكان ، أي لا موضع لكم تقيمون فيه . " فارجعوا " أي إلى منازلكم . أمروهم بالهروب من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : قالت اليهود لعبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه ! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون .

قوله تعالى : " ويستأذن فريق منهم النبي " في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة ، وهم بنو حارثة ابن الحارث ، في قول ابن عباس . وقال يزيد بن رومان : قال ذلك أوس بن قيظي عن ملأ من قومه . " يقولون إن بيوتنا عورة " أي سائبة ضائعة ليست بحصينة ، وهي مما يلي العدو . وقيل : ممكنة للسراق لخلوها من الرجال . يقال : دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها . يقال : عور المكان عورا فهو عور . وبيوت عورة . وأعور فهو معور . وقيل : عورة ذات عورة . وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة . قاله الهروي . وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي : " عورة " بكسر الواو ، يعني قصيرة الجدران فيها خلل . تقول العرب : دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة . وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن . قال الشاعر :

متى تلقَهم لم تلقَ في البيت مُعْوِرَا *** ولا الضيفَ مفجوعاً ولا الجارَ مُرْمِلاَ

الجوهري : والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب . النحاس : يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة ، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل . المهدوي : ومن كسر الواو في " عورة " فهو شاذ ، ومثله قولهم : رجل عور{[12772]} ، أي لا شيء له ، وكان القياس أن يعل فيقال : عار ، كيوم راح{[12773]} ، ورجل مال ، أصلهما روح ومول . ثم قال تعالى " وما هي بعورة " تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه . " إن يريدون إلا فرارا " أي ما يريدون إلا الهرب . قيل : من القتل . وقيل : من الدين . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار : بني حارثة وبني سلمة ، وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق ، وفيهم أنزل الله تعالى : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " {[12774]} [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما ساءنا ما كنا هممنا به ؛ إذ الله ولينا . وقال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس ، والآخر أوس بن قيظي . قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه .


[12770]:في كتاب معجم البلدان لياقوت:" يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام".
[12771]:في معجم البلدان:" وقال الكلبي: إن العماليق أخرجوا بني عقيل وهم إخوة عاد فنزلوا الحجفة..."
[12772]:اضطربت الأول هنا؛ فقد ذكر في ش:" رجل أعور أي لا شيء له". وفي ج: "رجل عور كور..." بالكاف. وفي ك: "رجل عور لور..." باللام. ولعل الكلمة الأخيرة اتباع، على أننا لم نجدها في مظانها.
[12773]:أي ذو ريح وذو مال.
[12774]:راجع ج 4 ص 185.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

ولما ذكر ما هو الأصل في نفاقهم وهو التكذيب ، أتبعه ما تفرع عليه ، ولما كان تخذيلهم بالترجيع مرة ، عبر عنه{[55193]} بالماضي فقال : { وإذ قالت } أنث الفعل إشارة إلى رخاوتهم وتأنثهم في الأقوال والأفعال { طائفة منهم } أي قوم كثير من موتى القلوب ومرضاها {[55194]}يطوف بعضهم{[55195]} ببعض : { يا أهل يثرب } عدلوا عن الاسم - الذي وسمها به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وطيبة مع حسنه - إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع احتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف ، إظهاراً للعدول عن الإسلام ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : ثرب عليه ثرباً وأثرب ، بمعنى ثرب تثريباً - إذا لامه وعيّره بذنبه وذكره به . وأكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا : { لا مقام لكم } أي قياماً أو موضع قيام تقومون به - على قراءة الجماعة{[55196]} بالفتح{[55197]} ، وعلى قراءة حفص بالضم المعنى : لا إقامة أو موضع إقامة{[55198]} في مكان{[55199]} القتال ومقارعة الأبطال { فارجعوا } إلى منازلكم هراباً ، وكونوا مع نسائكم أذناباً{[55200]} ، أو إلى دينكم الأول على وجه المصارحة لتكون لكم{[55201]} عند هذه الجنود يد{[55202]} .

ولما ذكر هؤلاء الذين هتكوا الستر ، وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر ، أتبعهم آخرين تستروا بعض التستر{[55203]} تمسكاً بأذيال النفاق ، خوفاً من أهوال الشقاق ، فقال : { ويستأذن } أي يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل{[55204]} الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء { فريق منهم } أي طائفة شأنها الفرقة { النبي } وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق ، والخلق ، وما لديه من جلالة الشمائل وكريم الخصائل ، ولم يخشوا من إنبائنا له بالأخبار ، وإظهارنا له الخبء ، من مكنون الضمائر وخفي الأسرار ، حال كونهم { يقولون } أي{[55205]} في كل قليل ، مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين لهم قولهم{[55206]} : { إن بيوتنا } أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم من المنافقين { عورة } أي بها{[55207]} خلل كثير{[55208]} يمكن من أراد من الأحزاب أن يدخلها منه ، فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم{[55209]} حماية للدين ، وذباً عن الأهلين .

ولما قالوا ذلك مؤكدين له ، رده الله تعالى موكداً لرده مبيناً لما أرادوا فقال : { وما } أي والحال أنها ما { هي } في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ، وأكد النفي فقال{[55210]} : { بعورة } ولا يريدون بذهابهم حمايتها { إن } أي ما { يريدون }{[55211]} باستئذانهم { إلا فراراً * }


[55193]:زيد من ظ وم ومد.
[55194]:من مد، وفي الأصل وم: يطرف بعض، وفي ظ: يطوف بعض.
[55195]:من مد، وفي الأصل وم: يطرف بعض، وفي ظ: يطوف بعض.
[55196]:راجع نثر المرجان 5/383.
[55197]:سقط من ظ.
[55198]:من م ومد، وفي الأصل: قيام، والكلمة مع "أو موضع" ساقطة من ظ.
[55199]:في مد: موضع.
[55200]:زيد من ظ ومد.
[55201]:في مد: لهم.
[55202]:زيد من ظ وم ومد.
[55203]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الستر.
[55204]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إلى.
[55205]:زيد من ظ وم ومد.
[55206]:زيد من ظ وم ومد.
[55207]:زيد من م ومد.
[55208]:في ظ ومد: كبير.
[55209]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مفسدهم.
[55210]:زيد من ظ وم ومد.
[55211]:زيد من ظ وم ومد.