ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير :
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة . إن يريدون إلا فرارا . .
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
( وتظنون بالله الظنونا ) . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
قوله تعالى : " إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم " " إذ " في موضع نصب بمعنى واذكر . وكذا " وإذ قالت طائفة منهم " . " من فوقكم " يعني من فوق الوادي ، وهو أعلاه من قبل المشرق ، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر ، وعيينة بن حصن في أهل نجد ، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد . " ومن أسفل منكم " يعني من بطن الوادي من قبل المغرب ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة ، ويزيد بن جحش على قريش ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق . " وإذ زاغت الأبصار " أي شخصت . وقيل : مالت ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول . " وبلغت القلوب الحناجر " أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم ، واحدها حنجرة ، فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت . قاله قتادة . وقيل : هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد . قال{[12765]} :
إذا ما غضبنا غضبةً مُضَرِيَّةً *** هتكنا حجابَ الشمسِ أو قَطَرَتْ دَمَا
أي كادت تقطر . ويقال : إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا ؛ ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . وقيل : إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر ، وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . قال معناه عكرمة . روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : بلغ فزعها . والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه ، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة . والحنجرة والحنجور ( بزيادة النون ) حرف الحلق . " وتظنون بالله الظنونا " قال الحسن : ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم ينصرون . وقيل : هو خطاب للمنافقين ، أي قلتم هلك محمد وأصحابه . واختلف القراء في قوله تعالى : " الظنونا ، والرسولا ، والسبيلا " آخر السورة ، فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر . وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف ، مصحف عثمان ، وجميع المصاحف في جميع البلدان . واختاره أبو عبيد ، إلا أنه قال : لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن . قالوا : ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها . قال :
نحن جلبنا القُرَّحَ{[12766]} القوافلا *** تستنفر الأواخرُ الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا . قالوا : هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى : " ولأوضعوا{[12767]} خلالكم " [ التوبة : 47 ] فكتبوها كذلك ، وغير هذا . وأما الشعر فموضع ضرورة ، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه . قال ابن الأنباري : ولم يخالف المصحف من قرأ . " الظنون . والسبيل . والرسول " بغير ألف في الحروف الثلاثة ، وخطهن في المصحف بألف ؛ لأن الألف التي في " أطعنا " والداخلة في أول " الرسول . والظنون . والسبيل " كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هوّاز . وفيه حجة أخرى : أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط ، فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ ، وأنها كالألف في " سحران " وفي " فطر السموات والأرض " وفي " وعدنا موسى " وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ{[12768]} ، وهو مسقط من الخط . وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا . وقرئ على لغة من يقول : لقيت الرجل ، بغير ألف . أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو ، بواو ، ومررت بالرجلي ، بياء ، في الوصل والوقف . ولقيت الرجلا ، بألف في الحالتين كلتيهما . قال الشاعر :
أسائلةٌ عميرةُ عن أبيها *** خلال الجيش تعترف الرِّكابا{[12769]}
فأثبت الألف في " الركاب " بناء على هذه اللغة . وقال الآخر :
إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا
وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره . وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل . قال ابن الأنباري : ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة ، وأن الألف تدعمها وتقويها .
ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلاً من { إذ } الأولى : { إذ جاؤوكم } أي الجنود المذكورون بادئاً بالأقرب إليهم ، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة .
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل ، أدخل أداة التبعيض فقال : { من فوقكم } يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق ، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام{[55151]} ، وهي بين بني{[55152]} قريظة وبين من في الخندق ، فصاروا فوق العيال والرجال .
ولما كان المراد الفوقية{[55153]} من جهة علو الأرض ، أوضحها بقوله : { ومن أسفل منكم } دون أن يقول : أسفلكم ، وأفاد ذلك أيضاً أن من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط{[55154]} ، ولم يقل " و{[55155]} من تحتكم " لئلا يظن أنه فوق الرؤوس وتحت الأرجل ، ولم يقل في الأول " من أعلى منكم " لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو ، وأسفل الأرض{[55156]} المدينة من ناحية المغرب يعني قريشاً ، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة .
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف ، ذكرهم بالخوف بذكر{[55157]} ظرفه{[55158]} أيضاً مفخماً لأمره بالعطف فقال : { وإذ } أي واذكروا حين ، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن{[55159]} التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ{[55160]} فقال{[55161]} : { زاغت الأبصار } أي مالت عن سداد القصد{[55162]} فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب ، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليماً للأدب في المخاطبة ، وكذا { وبلغت القلوب } كناية عن شدة الرعب والخفقان ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر ، ومنه قولهم للجبان : انتفخ منخره أي رئته { الحناجر } جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلقوم ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود{[55163]} عن أبي هريرة رضي الله عنه " شر ما في الإنسان جبن خالع " أي يخلع القلب من مكانه ، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد .
ولما كانت هذه حالة عرضت ، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر ، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقاً لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب ، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال : { وتظنون بالله } الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته ، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته { الظنونا * } أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح ، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه ، وأما بالنسبة إلى{[55164]} الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال ، فتارة يظن الهلاك للضعف ، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك ، و{[55165]}يظن المنافقون ومن قاربهم{[55166]} من ضعفاء القلوب ما حكى الله{[55167]} عنهم ؛ قال
الرازي في اللوامع : و{[55168]} يروى أن المسلمين قالوا : بلغت القلوب{[55169]} الحناجر ، فهل من شيء نقول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
" اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة{[55170]} إشارة إلى اتساع هذه الأفكار ، وتشعب تلك الخواطر ، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص{[55171]} إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف .