( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ؛ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك . إنما يخشى الله من عباده العلماء . إن الله عزيز غفور ) . .
إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب . لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها . في الثمرات . وفي الجبال . وفي الناس . وفي الدواب والأنعام . لفتة تجمع في كلمات قلائل ، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً ، وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً .
وتبدأ بإنزال الماء من السماء ، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان . ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات ، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها ( فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ) . . وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع گلرسامين في جميع الأجيال . فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر . بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من اضنوع الواحد . فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون !
وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية . ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ، بل إن فيها أحياناً ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها !
( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) . .
والجدد الطرائق والشعاب . وهنا لفتة في النص صادقة ، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها . والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها . مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه ، وهناك جدد غرابيب سود ، حالكة شديدة السواد .
واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ، تهز القلب هزاً ، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة ، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان . ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصراً مشتركاً بين هذه وتلك ، يستحق النظر والالتفات .
قوله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " هذه الرؤية رؤية القلب والعلم ، أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل ؛ ف " أن " واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية . " فأخرجنا به ثمرات " هو من باب تلوين الخطاب . " مختلفا ألوانها " نصبت " مختلفا " نعتا ل " ثمرات " . " ألوانها " رفع بمختلف ، وصلح أن يكون نعتا ل . " ثمرات " لما دعا عليه من ذكره . ويجوز في غير القرآن رفعه ؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه . " به " أي بالماء وهو واحد ، والثمرات مختلفة . " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها " الجدد جمع جدة ، وهي الطرائق المختلفة الألوان ، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا . قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقال : جدد ( بقسم الجيم والدال ) نحو سرير وسرر . وقال زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جُدُدٍ *** طاوٍ ويرتع بعد الصيف عُريانا
وقيل : إن الجدد القطع ، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته . حكاه ابن بحر . قال الجوهري : والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه . والجدة الطريقة ، والجمع جدد . قال تعالى : " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها " أي طرائق تخالف لون الجبل . ومنه قولهم : ركب فلان جدة من الأمر ، إذا رأى فيه رأيا . وكساء مجدد : فيه خطوط مختلفة . الزمخشري : وقرأ الزهري " جدد " بالضم جمع جديدة ، هي الجدة ؛ يقال : جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن . وقد فسربها قول أبي ذؤيب :
جَوْنُ السَّرَاةِ له جدائد أربعُ{[13140]}
وروي عنه " جدد بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض .
ولما كان من من أغرب الأشياء الدالة على تمام القدرة الدال على الوحدانية أن يكون شيء واحد سبباً لسعادة قوم وهداهم ، وشقاوة قوم وضلالهم وعماهم وكان ذلك ، امراً دقيقاً وخطباً جليلاً ، لا يفهمه حق فهمه إلا أعلى الخلائق ، ذكر المخاطب بهذا الذكر ما يشاهد من آيته ، فقال على طريق الإستخبار لوصول المخاطب إلى رتبة أولي الفهم بما ساق من ذلك سبحانه على طريق الإخبار في قوله : { الله الذي أرسل الرياح } ولفت القول إلى الاسم الأعظم دلالة على عظمة ما في حيزه : { ألم تر أن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { أنزل من السماء } أي التي لا يصعد إليها الماء ولا يستمسك عن الهبوط منها في غير أوقاته إلا بقدرة باهرة لا يعجزها شيء { ماء } أي لا شيء يشابهه في مماثلة بعضه لبعض ، فلا قدرة لغيره سبحانه على تمييز شيء منه إلى ما يصلح لشيء دون آخر .
ولما كان أمراً فائتاً لقوى العقول ، نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة فقال : { فأخرجنا } أي بما لنا من العظمة { به } أي الماء من الأرض { ثمرات } أي متعددة الأنواع { مختلفاً ألوانها } أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها ، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر .
ولما ذكر تنوع ما عن الماء وقدمه لأنه الأصل في التلوين كما أنه الأصل في التكوين ، أتبعه التلوين عن التراب الذي هو أيضاً شيء واحد ، فقال ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التأثر وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه : { ومن } أي ومما خلقنا من { الجبال جدد } أي طرائق وعلامات وخطوط متقاطعة { بيض وحمر } ولعله عبر عنها بذلك دون طرق إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق ولا تضمحل ألوانها على طول الأزمان كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده ، والجد بالفتح ، والجدة بالكسر ، والجدد بالتحريك : وجه الأرض ، وجمعه جدد كسرر ، والجدة بالضم : الطريقة والعلامة والخط في ظهر الحمار يخالف لونه وجمعه جدد كغدة وغدد وعدة وعدد ومدة ومدد ، والجدد محركة : ما أشرف من الرمل وشبه السلعة بعنق البعير ، والأرض الغليظة المستوية ، والجدجد بالفتح : الأرض المستوية .
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به ، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص : { مختلف ألوانها } وهي من الأرض وهي واحدة . ولما قدم ما كان مستغرباً في ألوان الأرض لأنه على غير لونها الأصلي ، أتبعه ما هو أقرب إلى الغبرة التي هي أصل لونها .
ولما كانت مادة { غرب } تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس ، ويلزم منه السواد ، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده ، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره ، قال تعالى عاطفاً على بيض : { وغرابيب } أي من الجدد أيضاً { سود * } فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة " وسود غرابيب سود " فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع ، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما : أشد سواد الغرابيب - رواه عنه البخاري ، لأن السواد الخالص في الأرض ، مستغرب ، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره ، فتصير في غاية السواد ، وذلك في مدينة فوة ومسير وغيرهما مما داناهما من بلاد مصر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.