ذلك شأن العبد الصالح ، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه . فأما شأن ربه معه ، فقد أفصح عنه هذا القرآن :
( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) . .
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال . والسيئات مغفورة متجاوز عنها . والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء . ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا . ولن يخلف الله وعده . . وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام .
{ أُولَئِكَ } الذين ذكرت أوصافهم { الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } وهو الطاعات لأنهم يعملون أيضا غيرها . { وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ } فِي جملة { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } فحصل لهم الخير والمحبوب وزال عنهم الشر والمكروه .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } أي : هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد صادق من أصدق القائلين الذي لا يخلف الميعاد .
قوله : { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا ، وكلها حسن ، والأحسن بمعنى الحسن ، فيثيبهم عليها ، { ونتجاوز عن سيئاتهم } فلا نعاقبهم عليها ، قرأ حمزة والكسائي وحفص : { ونتجاوز } بالنون ، أحسن نصب ، وقرأ الآخرون بالياء ، وضمها ، أحسن رفع . { في أصحاب الجنة } مع أصحاب الجنة ، { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } وهو قوله عز وجل : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } ( التوبة-72 ) .
قوله تعالى : " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم " قراءة العامة بضم الياء فيهما . وقرئ " يتقبل ، ويتجاوز " بفتح الياء ، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل . وقرأ حفص وحمزة والكسائي " نتقبل ، ونتجاوز " النون فيهما ، أي نغفرها ونصفح عنها . والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه . وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها " ووصينا الإنسان " إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم . وهو قول الحسن . ومعنى " نتقبل عنهم " أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات . قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا - : إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم . وقيل : الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات ، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى . " في أصحاب الجنة " " في " بمعنى مع ، أي مع أصحاب الجنة ، تقول : أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد ، أي مع جميعهم . " وعد الصدق " نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله ، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق . وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ؛ لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله ، وهو كقوله تعالى : " حق اليقين " {[13840]} [ الواقعة : 95 ] . وهذا عند الكوفيين ، فأما عند البصريين فتقديره : وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق ، فحذف الموصوف . وقد مضى هذا في غير موضع{[13841]} . " الذي كانوا يوعدون " في الدنيا على ألسنة الرسل ، وذلك الجنة .
ولما وصف هذا المؤمن بادئاً به لكونه في سياق الإحسان ، وكان المراد بالإنسان الجنس ، قال مادحاً له بصيغة الجمع منبهاً على أن قبول الطاعات مشروط ببر{[58778]} الوالدين لأن ما ظهر دليل ما بطن ، ومن لا يشكر من كان من جنسه لا سيما{[58779]} وهو أقرب الناس إليه لا سيما وهو السبب في إيجاده لم يشكر الله كما في الحديث " لا{[58780]} يشكر الله من لا يشكر الناس " ومن صلح ما بينه وبين الله صلح ما بينه وبين-{[58781]} الناس عامة لا سيما الأقارب نسباً أو مكاناً لا سيما الوالدين : { أولئك } أي العالو الرتبة { الذين نتقبل } بأسهل وجه{[58782]} { عنهم } وأشار سبحانه بصيغة التفعل إلى أنه عمل في قبوله عمل المعتني ، وقرأ{[58783]} حمزة والكسائي وحفص{[58784]} بالنون فيه وفي الذي بعده ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { أحسن } ويجوز أن يراد به مطلق {[58785]}الدعاء أو الطاعات{[58786]} ويكون ما دون الأحسن مقبولاً ، قبولاً مطلقاً على مقدار النية فيه ، وتكون {[58787]}التعدية يعني {[58788]} إشارة إلى أن جبلاتهم مبنية على الترقي{[58789]} في معارج{[58790]} الكمال في كل وقت إلى غير نهاية ، فتكون{[58791]} هذه المحاسن ليست منهم-{[58792]} بمعنى أنهم مجبولون على أعلى منها في نهاياتهم والعبرة بالنهايات{[58793]} ولذلك{[58794]} قال تعالى : { ما عملوا } ولم يقل : أعمالهم . ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً ، نبه على ذلك وعلى أن شرط تكفير السيئات التوبة بقوله تعالى : { ونتجاوز } أي بوعد مقبول لا بد من كونه ، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي بالنون في الفعلين { عن سيئاتهم } أي فلا يعابهم عليها .
ولما كان هذا مفهماً لأنهم من أهل الجنة ، صرح{[58795]} به زيادة في مدحهم بقوله : { في أصحاب الجنة } أي أنه فعل بهم ذلك وهم في عدادهم لأنهم لم يزالوا فيهم{[58796]} لأنهم ما برحوا{[58797]} بعين الرضا . ولما كان هذا وعداً ، أكد مضمونه بقوله : { وعد الصدق } لكونه مطابقاً للواقع { الذي كانوا } {[58798]}بكون ثابت{[58799]} جداً { يوعدون * } أي يقطع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم ، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.