في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ} (8)

8

( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه . ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل ، وجعل لله أنداداً ، ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً ، إنك من أصحاب النار ) . .

إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر ؛ ويسقط عنها الركام ؛ وتزول عنها الحجب ، وتتكشف عنها الأوهام ؛ فتتجه إلى ربها ، وتنيب إليه وحده ؛ وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره . وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء .

فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ، ويخوله الله نعمة منه ، ويرفع عنه البلاء . فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام ، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه . وتطلعه إليه في المحنة وحده ، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته . . ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أنداداً . إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى ؛ وإما قيماً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعل لها في نفسه شركة مع الله ، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة ! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة ؛ ويحبها كما يحب الله أو أشد حباً ! والشرك ألوان . فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركاً ، لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم .

وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله . فسبيل الله واحد لا يتعدد . وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه . والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب . لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولاأرض ولا صديق ولا قريب ، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله ، وضلال عن سبيل الله ، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض :

( قل : تمتع بكفرك قليلاً : إنك من أصحاب النار ) . .

وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال . وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر . بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل ، حين يقاس إلى أيام الله !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ} (8)

{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } : يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره ، وقلة شكر عبده ، وأنه حين يمسه الضر ، من مرض أو فقر ، أو وقوع في كربة بَحْرٍ أو غيره ، أنه يعلم أنه لا ينجيه في هذه الحال إلا اللّه ، فيدعوه متضرعا منيبا ، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك .

{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } اللّه { نِعْمَةً مِنْهُ } بأن كشف ما به من الضر والكربة ، { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي : نسي ذلك الضر الذي دعا اللّه لأجله ، ومر كأنه ما أصابه ضر ، واستمر على شركه .

{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : ليضل بنفسه ، ويضل غيره ، لأن الإضلال فرع عن الضلال ، فأتى بالملزوم ليدل على اللازم .

{ قُلْ } لهذا العاتي ، الذي بدل نعمة اللّه كفرا : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } فلا يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار .

{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ} (8)

قوله تعالى : " وإذا مس الإنسان " يعني الكافر " ضر " أي شدة من الفقر والبلاء " دعا ربه منيبا إليه " أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه . " ثم إذا خوله نعمة منه " أي أعطاه وملكه . يقال : خولك الله الشيء أي ملكك إياه ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :

هنالك إن يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا *** وإن يُسْأَلُوا يعطوا وإن يَيْسِرُوا يُغْلُوا

وخول الرجل : حشمه ، الواحد خائل . قال أبو النجم :

أعطى فلم يبخَلْ ولم يُبَخَّلِ *** كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ

قوله تعالى : " نسي ما كان يدعو إليه من قبل " أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه . ف " ما " على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي . وقيل : بمعنى من كقوله : " ولا أنتم عابدون ما أعبد " [ الكافرون : 3 ] والمعنى واحد . وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل . أي ترك كون الدعاء منه إلى الله ، فما والفعل على هذا القول مصدر . " وجعل لله أندادا " أي أوثانا وأصناما . وقال السدي : يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم . " ليضل عن سبيله " أي ليقتدي به الجهال . " قل تمتع بكفرك قليلا " أي قل لهذا الإنسان " تمتع " وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل . " إنك من أصحاب النار " أي مصيرك إلى النار .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ} (8)

ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده ، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه ، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال : { وإذا } وهي - والله أعلم - حالية من واو { تصرفون } وكان الأصل : مسكم ، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال : { مس الإنسان } أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره { ضر } أي ضر كان من جهة يتوقعها - بما أشار إليه الظرف بمطابقة لمقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها { دعا ربه } أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله " ذلكم الله ربكم " ذاكراً صفة إحسانه { منيباً } أي راجعاً رجوعاً عظيماً { إليه } بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد .

ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه ، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب ، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال : { ثم } أي بعد استبعاده جداً . ولما كان الرخاء محققاً ، وهو أكثر من الشدة ، عبر بأداة التحقق ، فقال منبهاً بالتعبير ب " خول " على أن عطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً ، لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء : { إذا خوله } أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء ، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده { نعمة منه } ومكنه فيها { نسي } أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان ، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه ، فعلم أن صلاحه بالضراء { ما } أي الأمر الذي { كان يدعوا } ربه على وجه الإخلاص { إليه }أي إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان ، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال : { من قبل } أي قبل حال التخويل { وجعل } زيادة على الكفران بنسيان الإحسان { لله } أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع { أنداداً } أي لكونه يتأهلهم ، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة ، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه ، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً ، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم .

ولما كان ذلك في غاية الضلال ، لكونه - مع أنه خطأ - موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس ، وكان هذا الضلال في غاية الظهور ، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة ، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه ، فقال مشيراً إلى ذلك كله : { ليضل } أي بنفسه عند فتح الياء ، ويضل غيره عند من ضمها { عن سبيله } أي الطريق الموصل إلى رضوانه ، الموجب للفوز بإحسانه .

ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب ، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت - بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه - كافراً من غير شك عند ذي عقل ، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار ، والتمتع الصافي عن الأكدار ، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار ، فقال تعالى مبيناً لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب { قل } أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب ، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر : { تمتع } أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها - مع كونه زائلاً - يفيض إلى الله ، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله .

ولما ذكر تمتيعه بالخسيس ، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمتيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال : { بكفرك } ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال : { قليلاً } ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال : ما رأيت نعيماً قط ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار ، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم ، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها : { إنك } وهذا الأمر هنا يراد به الزجر ، تقديره : إن تمتعت هكذا كنت { من أصحاب النار * } أي الذين لم يخلقوا إلا لها{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها }[ الأعراف : 179 ] .