في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

ومع النهي عن مشية المرح ، بيان للمشية المعتدلة القاصدة : واقصد في مشيك . . والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف . وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال . ومن القصد كذلك . لأن المشية القاصدة إلى هدف ، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر ، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق .

والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته . وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب ، أو شاك في قيمة قوله ، أو قيمة شخصه ؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق !

والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . . فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية ، مع النفور والبشاعة . ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ، ثم يحاول . . شيئا من صوت هذا الحمير . . !

وهكذ تنتهي الجولة الثانية ، بعدما عالجت القضية الأولى ، بهذا التنويع في العرض ، والتجديد في الأسلوب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مَشْيَ البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت .

{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أدبا مع الناس ومع اللّه ، { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته .

وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان لابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها ، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا .

وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحِكَمِها ومناسباتها ، فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبيَّن له الموجب لتركه ، وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة اللّه ، وخوَّفه القدوم عليه ، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها .

ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك .

وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

فيه ست مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " واقصد في مشيك " لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال : " واقصد في مشيك " أي توسّط فيه . والقصد : ما بين الإسراع والبطء ، أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ) . فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع ، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما : كان إذا مشى أسرع - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت . والله أعلم . وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقّدم بيانه في " الفرقان " {[12598]} .

الثانية- قوله تعالى : " واغضض من صوتك " أي انقص منه ، أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه ، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي . والمراد بذلك كله التواضع . وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته : لقد خشيت أن ينشق مُرْيَطاؤك ! والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير{[12599]} . والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة .

الثالثة- " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " أي أقبحها وأوحشها ، ومنه أتانا بوجه منكر . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه ، ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون : الطويل الأذنين ، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة . وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة{[12600]} . وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى .

الرابعة- في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة{[12601]} بقبح أصوات الحمير ؛ لأنها عالية . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا ) . وقد روي : أنه{[12602]} ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا . وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء شيء تسبيح إلا نهيق الحمير . وقال عطاء : نهيق الحمير دعاء على الظلمة .

الخامسة- وهذه{[12603]} الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا{[12604]} بهم ، أو بترك الصياح جملة ، وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك ، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز ، ومن كان أخفض كان أذل ، حتى قال شاعرهم :

جَهِير الكلام جهير العُطاس *** جهير الرُّواء جهير النَّعَمْ{[12605]}

ويعدُو على الأَيْن عَدْوَى الظَّلِيمِ *** ويعلو الرجال بخَلْق عَمَمْ{[12606]}

فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله : " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار . فجعلهم في المثل سواء .

السادسة- قوله تعالى : " لصوت الحمير " اللام للتأكيد ، ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة ، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت . ويقال : صوت تصويتا فهو مصوت . ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت ، كقولهم : رجال مال ونال ، أي كثير المال والنوال .


[12598]:راجع ج 13 ص 68.
[12599]:في الأصول: " معمر" بالميم بدل الياء وهو تحريف.
[12600]:الرجلة (بضم فسكون): المشي راجلا.
[12601]:الملاحاة: الملاومة والمباغضة.
[12602]:لفظة: "أنه" ساقطة من ج.
[12603]:في ك: "وفي هذه الآية إذن من الله تعالى بترك الصوت والصياح".
[12604]:في ج: "تهازيا".
[12605]:الرواء (بالضم والمد): المنظر الحسن. والنعم: الإبل.
[12606]:الأين: الإعياء. والخلق العمم: التام.