تبدأ الجولة الثالثة بنسق جديد . تبدأ بعرض الدليل الكوني مرتبطا بالناس ، متلبسا بمصالحهم وحياتهم ومعاشهم ، متعلقا بنعم الله عليهم ، نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة ، تلك التي يستمتعون بها ، ولا يستحيون معها أن يجادلوا في الله المنعم المتفضل الوهاب . . ثم تسير على هذا النسق في تقرير القضية الأولى التي عالجتها الجولتان الأولى والثانية . .
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ؛ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ? ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ? . .
وهذه اللفتة المكررة في القرآن بشتى الأساليب تبدو جديدة في كل مرة ، لأن هذا الكون لا يزال يتجدد في الحس كلما نظر إليه القلب ، وتدبر أسراره ، وتأمل عجائبه التي لا تنفد ؛ ولا يبلغ الإنسان في عمره المحدود أن يتقصاها ؛ وهي تبدو في كل نظرة بلون جديد ، وإيقاع جديد .
والسياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون ! مما يقطع بأن هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ؛ وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبرة ، التي تنسق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل . . الأرض . . !
إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون . والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض ، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية ، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئا إلى جوارها . ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه ، وتكريمه له على كثير من خلقه . . هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب . وأن يهيء الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه ، ومن ذخائره وخيراته . وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية ، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة ، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض . فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل ؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل ؛ وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل ؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل ؛ وكل نفس يتنفسه ، وكل خفقة يخفقها قلبه ، وكل منظر تلتقطه عينه ، وكل صوت تلتقطه أذنه ، وكل خاطر يهجس في ضميره ، وكل فكرة يتدبرها عقله . . . إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله .
وقد سخر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات ، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم ، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه . وسخر له ما في الأرض . وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبرا . فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض ، ومكنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز . ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر . ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره ؛ ومنه ما لم يعرفه أصلا من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري . وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها ، ولا يحصي أنماطها . . ومع هذا كله فإن فريقا من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم ، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم .
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) . .
وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني ، وفي جوار هذه النعمة السابغة ويبدو الجحود والإنكار بشعا شنيعا قبيحا ، تنفر منه الفطرة ، ويقشعر منه الضمير . ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله ، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة . يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله ؛ جاحدا النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة . ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم ، ولا يهتدي بهدى ، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل .
{ 20 - 21 } { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
يمتن تعالى على عباده بنعمه ، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها ؛ وعدم الغفلة عنها فقال : { أَلَمْ تَرَوْا } أي : تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم ، { أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } من الشمس والقمر والنجوم ، كلها مسخرات لنفع العباد .
{ وَمَا فِي الْأَرْضِ } من الحيوانات والأشجار والزروع ، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا }
{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ } أي : عمّكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها ؛ والتي تخفى علينا ، نعم الدنيا ، ونعم الدين ، حصول المنافع ، ودفع المضار ، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم ؛ بمحبة المنعم والخضوع له ؛ وصرفها في الاستعانة على طاعته ، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته .
{ و } لكن مع توالي هذه النعم ؛ { مِنَ النَّاسِ مَنْ } لم يشكرها ؛ بل كفرها ؛ وكفر بمن أنعم بها ؛ وجحد الحق الذي أنزل به كتبه ؛ وأرسل به رسله ، فجعل { يُجَادِلُ فِي اللَّهِ } أي : يجادل عن الباطل ؛ ليدحض به الحق ؛ ويدفع به ما جاء به الرسول من الأمر بعبادة اللّه وحده ، وهذا المجادل على غير بصيرة ، فليس جداله عن علم ، فيترك وشأنه ، ويسمح له في الكلام { وَلَا هُدًى } يقتدي به بالمهتدين { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [ غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا اقتداء بالمهتدين ]{[670]} وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير مهتدين ، بل ضالين مضلين .
قوله تعالى : " ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض " ذكر نعمه على بني آدم ، وأنه سخر لهم " ما في السموات " من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم . " وما في الأرض " عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى . " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " أي أكملها وأتمها . وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة : " وأصبغ " بالصاد على بدلها من السين ؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا . والنعم : جمع نعمة كسدرة وسدر ( بفتح الدال ) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص . الباقون : " نعمة " على الإفراد ، والإفراد يدل على الكثرة ، كقوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " {[12607]} [ إبراهيم : 34 ] . وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح . وقيل : إن معناها الإسلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية : ( الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ) . قال النحاس : وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل : " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم " {[12608]} [ المائدة : 6 ] قال : يدخلكم الجنة . وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة ، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة . وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة المعرفة والعقل . وقال المحاسبي : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة نعم العقبى . وقيل : الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات ، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات . وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة ، كلها ترجع إلى هذا .
قوله تعالى : " ومن الناس من يجادل في الله " تقدم معناها في " الحج " {[12609]} وغيرها . . نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن ربك ، من أي شيء هو ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ؛ قاله مجاهد . وقد مضى هذا في " الرعد " {[12610]} . وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث ، كان يقول : إن الملائكة بنات الله . قاله ابن عباس . " يجادل " يخاصم " بغير علم " أي بغير حجة " ولا هدى ولا كتاب منير " أي نيّر بيّن ، إلا الشيطان فيما يلقي إليهم . " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " {[12611]} [ الأنعام : 121 ] وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد .