ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة ، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير ! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة . في ارتقاب الحساب المرهوب . . وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد . ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب . ومرهوب بما وراءه من حساب . ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر ، والمنعم المتفضل ، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين !
ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق . يقال لها :
ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد فقال : { وَتَرَى } أيها الرائي لذلك اليوم { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم الملك الرحمن .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله ، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة ؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران ؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك ، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به ، هذا أحد الاحتمالات في الآية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه ، ويحتمل أن المراد بقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }
قوله تعالى : " وترى كل أمة جاثية " أي من هول ذلك اليوم . والأمة هنا : أهل كل ملة . وفي الجاثية تأويلات خمس : الأول : قال مجاهد : مستوفزة . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله . الضحاك : ذلك عند الحساب . الثاني : مجتمعة قاله ابن عباس . الفراء : المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين . الثالث : متميزة ، قاله عكرمة . الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج . الخامس : باركة على الركب قاله الحسن . والجثو : الجلوس على الركب . جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جُثُوّا وجُثِيا ، على فعول فيهما ، وقد مضى في " مريم " {[13799]} : وأصل الجثوة{[13800]} : الجماعة من كل شيء . قال طرفة يصف قبرين :
ترى جُثْوَتَيْنِ من تراب عليهما *** صفائحُ صُمٍّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ{[13801]}
ثم قيل : هو خاص بالكفار ، قاله يحي بن سلام . وقيل : إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب . وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كأني أراكم بالكوم{[13802]} جاثين دون جهنم " ذكره الماوردي . وقال سلمان : إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي " لا أسألك اليوم إلا نفسي " . " كل أمة تدعى إلى كتابها " قال يحي بن سلام : إلى حسابها . وقيل : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قال مقاتل . وهو معنى قول مجاهد . وقيل : " كتابها " ما كتبت الملائكة عليها . وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه . وقيل : الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ . وقرأ يعقوب الحضرمي " كل أمة " بالنصب على البدل من " كل " الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى ، إذ ليس في جثوها شيء من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها . وقيل : انتصب بإعمال " ترى " مضمرا . والرفع على الابتداء . " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " من خير أو شر .
قوله : { وترى كل أمة جاثية } { جاثية } أي باركة على الركب . جثا جثوا وجثيّا بضمهما أي جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه . وهو جاث . وقيل : مستوفزة . واستوفز في قعدته إذ قعد قعودا منتصبا غير مطمئن {[4193]} والمعنى : ترى يوم القيامة ، أهل كل ملة أو دين { جاثية } أي جالسة على ركبها وجلة . وذلك من هول القيامة الرعيبة ، وما يأتي على الكون حينئذ من أحداث جسام ، وخطوب هائلة مروعة . يومئذ تفزع القلوب وتضطرب الفرائص ، وتشخص الأبصار .
قوله : { كل أمة تدعى إلى كتابها } { كل } تقرأ بالرفع على أنها مبتدأ وخبره { تدعى } وتقرأ بالنصب على البدل من { كل } الأولى . { تدعى } ، في موضع نصب على الحال{[4194]} . يعني : كل أهل ملة أو دين يدعون إلى كتاب الحفظة ليقرأوه . وقال الجاحظ : تدعى كل أمة إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا . وقيل : تدعى أمة قبل أمة ، وقوم قبل قوم ، ورجل قبل رجل . وذكر من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يمثل لكل أمة يوم القيامة ما كنت تعبد من حجر أو وثن أو خشبة أو دابة ثم يقال : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فتكون ، أو تجعل تلك الأوثان قادة إلى النار حتى تقذفهم فيها " .
قوله : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } يقال لكل أمة من الأمم عقب ندائها إلى كتاب أعمالها : اليوم تعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا ، فتجزون الإحسان بالإحسان ، والإساءة بالإساءة . أو تثابون الخير بالخير ، والشر بالشر . فلا ظلم يومئذ ولا بخس ولا جور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.