بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله ؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل :
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ! والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
فبنوا إسرائيل حملوا التوراة ، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة . . ( ثم لم يحملوها ) . . فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه ، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع . ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم - وكما هي في حقيقتها - لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة ، ولا أنهم فقهوا حقيقتها ، ولا أنهم عملوا بها . ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام ، وليس له منها إلا ثقلها . فهو ليس صاحبها . وليس شريكا في الغاية منها !
وهي صورة زرية بائسة ، ومثل سيئ شائن ، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة ( بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ومثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها . . كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها . والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة ، والذين يعيشون في هذا الزمان ، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين . وبخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب ، وهم لا ينهضون بما فيها . . أولئك كلهم ، كالحمار يحمل أسفارا . وهم كثيرون كثيرون ! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس . إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب .
{ 5-8 } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة ، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي ، وما خصهم الله به من المزايا والمناقب ، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين ، حتى أهل الكتاب ، الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون ، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة من اليهود وكذا النصارى ، وأمرهم أن يتعلموها ، ويعملوا بما فيها{[1095]} ، وانهم لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به ، أنهم لا فضيلة لهم ، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا من كتب العلم ، فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره ؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك ؟ أم حظه منها حملها فقط ؟ فهذا مثل علماء اليهود{[1096]} الذين لم يعملوا بما في التوراة ، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والبشارة به ، والإيمان بما جاء به من القرآن ، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه ؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم .
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يرشدهم إلى مصالحهم ، ما دام الظلم لهم وصفًا ، والعناد لهم نعتًا .
{ مثل الذين حملوا التوراة } كلفوا العمل بها { ثم لم يحملوها } لم يعملوا بما فيها
6 10 { كمثل الحمار يحمل أسفارا } كتبا أي اليهود شبههم في قلة انتفاعهم بما في أيديهم من التوراة اذ لم يؤمنوا بمحمد عليه السلام بالحمار يحمل كتبا ثم قال { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين }
ضرب مثلا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . " حملوا التوراة " أي كلفوا العمل بها ، عن ابن عباس . وقال الجرجاني : هو من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي ضمنوا أحكام التوراة . " كمثل الحمار يحمل أسفارا " هي جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير ؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ . قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسِفْرٌ على ظهره أم زبِيل{[14957]} ؛ فهكذا اليهود . وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء . وقال الشاعر{[14958]} :
زواملُ للأسفار لا علمَ عندهم *** بجيّدها إلا كعلمِ الأبَاعِرِ
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا *** بأوساقه{[14959]} أوراح ما في الغرائر{[14960]}
وقال يحيى بن يمان : يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر ، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب . وقال الشاعر :
إن الرواة على جهل بما حملوا *** مثلُ الجمال عليها يحمل الوَدَعُ
لا الوَدْع ينفعه حمل الجمال له *** ولا الجمال بحمل الوَدْعِ تنتفع
وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن :
انعِق بما شئت تجد أنصارا *** وزُمّ أسفارا تجد حمارا
يحمل ما وضعت من أسفار *** يحمله كمثل الحمار
يحمل أسفارا له وما درى *** إن كان ما فيها صوابا وخطا{[14961]}
إن سئلوا قالوا كذا روينا *** ما إن كذبنا ولا اعتدينا
كبيرهم يصغر عند الحَفْلِ *** لأنه قلد{[14962]} أهل الجهل
" ثم لم يحملوها " أي لم يعملوا بها . شبههم - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتبا وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة . و " يحمل " في موضع نصب على الحال ، أي حاملا . ويجوز أن يكون في موضع جر على الوصف ؛ لأن الحمار كاللئيم . قال :
ولقد أمر على اللئيم يسبني{[14963]}
" بئس مثل القوم " المثل الذي ضربناه لهم ، فحذف المضاف . " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي من سبق في علمه أنه يكون كافرا .
{ مثل الذين حملوا التوراة } يعني : اليهود ومعنى حملوا التوراة : كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها .
{ ولم يحملوها } لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها ، شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره ولم يدر ما فيها .
{ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } يعني : اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها لأن التوراة تنطق بنبوته صلى الله عليه وسلم فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف التوراة .