ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة - شيئاً - إلى معنى نفسي ومطلب شعوري .
ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء . ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله . كما يعرض الصفحة المقابلة . صفحة التدبير السيّىء والمكر الخبيث ، وهو يهلك ويبور :
( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ، ومكر أولئك هو يبور ) . .
ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات ، والكلمة الطيبة والعمل الصالح ، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك ؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة . وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم . ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) . . وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ؛ وما فيهما من حياة ونماء . والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء !
وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة ، وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة ، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان . العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال . مما جعلهم يقولون : ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) . .
( من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً )
وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً !
إن العزة كلها لله . وليس شيء منها عند أحد سواه . فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره . ليطلبها عند الله ، فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ، ولا في أي كنف ، ولا بأي سبب ( فلله العزّة جميعاً ) . .
إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ؛ وتخشى اتباع الهدى - وهي تعترف أنه الهدى - خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى . إن الناس هؤلاء ، القبائل والعشائر وما إليها ، إن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة ، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها ( فلله العزّة جميعاً ) . . وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله . وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله . وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول ، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر . ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة ، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم . وهم مثله طلاب محاويج ضعاف !
إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية . وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ، وتعديل الحكم والتقدير ، وتعديل النهج والسلوك ، وتعديل الوسائل والأسباب ! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع ، عارفاً طريقه إلى العزة ، طريقه الذي ليس هنالك سواه !
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر . ولا لعاصفة طاغية . ولا لحدث جلل . ولا لوضع ولا لحكم . ولا لدولة ولا لمصلحة ، ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً . وعلام ? والعزة لله جميعاً . وليس لأحد منها شيء إلا برضاه ?
ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح :
( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) . .
ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه . فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله . القول الطيب والعمل الصالح . القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه ؛ والعمل الصالحالذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع . ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء .
والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس . حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله . حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي . يستعلي بها على شهواته المذلة ، ورغائبه القاهرة ، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس . ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه . فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ، ومخاوفهم ومطامعهم . ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان . . وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان !
إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل . وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار . وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة . وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح . . كلا ! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس ، واستعلاء على القيد والذل ، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله . ثم هي خضوع لله وخشوع ؛ وخشية لله وتقوى ، ومراقبة لله في السراء والضراء . . ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه . ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه . ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه .
هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة ، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق . ثم تكمل بالصفحة المقابلة :
( والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ) .
ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون . ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء . فهؤلاء لهم عذاب شديد . فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور . فلا يحيا ولا يثمر . من البوار ومن البوران سواء . وذلك تنسيقاً مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة .
والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزة الكاذبة ، والغلبة الموهومة . وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء ، وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء . ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله ، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه . وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل . فأما المكر السيى ء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان . إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد . وعد الله ، لا يخلف الله وعده . وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم .
{ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور }
فلله العزة جميعا : فلتطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك .
الكلم الطيب : سبحان الله والحمد لله والله أكبر وكل ذكر وتلاوة قرآن وأمر معروف ونهي عن منكر والمراد من صعوده : قبوله .
والعمل الصالح : الإخلاص يعلى قدر الكلم الطيب عند الله تعالى .
يمكرون السيئات : يعملونها ويكسبونها .
من أراد عز الدنيا وشرف الآخرة فإن ذلك لا ينال إلا بطاعة الله تعالى فإن العزة لله وحده فهو سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء يضع رفيعا ويرفع وضيعا ويغني فقيرا ويفقر غنيا ويعافي مبتلى ويبتلي معافى بيده الخلق والأمر كل يوم هو في شأن أي شئون بيديها ولا يبتديها : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء واعز من تشاء وتذل من تشاء . . . ( آل عمران : 26 ) .
وقد كان كفار مكة يتقربون إلى الأصنام ويعبدونها يلتمسون عندها العزة ، فبين القرآن أن العزة لله وأن أسباب العزة مجتمعة في يده وقدرته وأنه سميع قريب مجيب وآية ذلك أن الكلم الطيب مثل ذكر الله وتسبيحه وتلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنواع الأعمال الطيبة الصالحة تصعد إلى الله فيقبلها ويثيب عليها وهو جليس من ذكره فمن ذكره في نفسه ذكره الله في نفسه ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه .
والعمل الصالح المقترن بالإخلاص وأداء الفرائض يرفعه الله ويقبله فالرفعة هنا إشارة إلى القبول وحسن الجزاء أما كفار مكة ، ومن يدبر السوء مثل اجتماعهم في دار الندوة للتشاور في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من يقترح قتله ومنهم من يقترح حبسه ومنهم من يقترح نفيه ولكن الله أبطل كيدهم ونجى رسوله صلى الله عليه وسلم .
{ والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور . . . } والذين يمكرون المكرات السيئات من قريش ضد محمد صلى الله عليه وسلم لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة ومكر هؤلاء يفسد ولا يتحقق' ويصبح بائرا تالفا .
قال تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . ( الأنفال : 30 ) .
لقد أكرم الله رسوله وجعل هجرته نصرا وآزر جهاده في غزوات متتابعة مثل : بدر وأحد والخندق والحديبية ثم فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا وبار مكر الكافرين وبطل شأنهم ونصر الله المؤمنين واعز الله دينه وصدق الله العظيم حيث يقول :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الذين كله ولو كره المشركون ( الصف : 9 ) .
وقال تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . ( فاطر : 43 ) .
قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } منصوب على الحال . و { الْعِزَّةَ } معناها القوة والغلبة . والعز ضد الذل . وهو عزيز أي قوي{[3844]} ؛ فلقد كان الكافرون يتعززون بالأصنام كقوله سبحانه وتعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عِزّا } وكذلك الخائرون والضعفاء والمنافقون ، فإنهم يتعززون بالكافرين من أعداء الله ورسوله كقوله تعالى : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } وبذلك فإنه لا عزة إلا لله ولأوليائه المؤمنين المتقين . فمن ابتغى العزة فلا يطلبها إلا من الله ؛ لأن العزة كلها مختصة به سبحانه . سواء في ذلك عزة الدنيا والآخرة . وإنما يتعزز المرء بطاعة الله والتزام شرعه وأوامره وأحكام دينه دون تفريط أو تقصير ؛ فإن من يعتصم بحبل الله ولا يزيغ عن منهج الله الحق إلى ملل الكفر والباطل أو الهوى والشهوات فإن الله يعزُّه في الدنيا ؛ إذ يجعله مكرما مفضالا في المؤمنين . وكذلك يُعزّه في الآخرة ؛ إذ يرفعه إلى مراتب الأبرار الآمنين في عليين .
وفي هذا النص الرباني ما لا يخفى من التنبيه على الاعتزاز بالله وذلك بالإذعان لجلاله العظيم بتمام الخضوع له والطاعة لأمره ؛ فالله وحده مصدر العزة في هذه الدنيا ويوم الأشهاد فما ينبغي للمؤمن بعد رسوخ هذه الحقيقة أن يذل خاويا لغير ربه فيسأله الغلبة والاعتزاز وعلو الشأن . إنه لا يستجير بالكافرين الخاسرين طلبا للعزة منهم إلا الخائرون المستضعفون من الناس .
قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } و { الْكَلِمُ } جمع كلمة وهو الكلام{[3845]} وقد اختلفوا في المراد بالكلم الطيب ؛ فقد قيل : هو قول العبد : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وقيل : هو لا إله إلا الله . وقيل : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك . وهذا أولى بالصواب . فإن كل ذكر لله من تلاوة ودعاء واستغفار وتهليل وإنابة ، لهو كلم طيب يصعد إلى الله ؛ أي يرتفع إليه . وهو من الصعود بمعنى العروج إلى فوق .
أما العمل الصالح : فهو كل عمل وافق السنة وقَُصد به مرضاة الله . وقوله : { يَرْفَعُهُ } الرافع هو الله . والتقدير : والعمل الصالح يرفعه الله . كما أن الله ، سبحانه ، إليه يصعد الكلم الطيب . وقيل : الهاء في قوله : { يَرْفَعُهُ } تعود على { الْكَلِمُ } . والتقدير : والعمل الصالح يرفع الكلم{[3846]} وهو قول ابن عباس : وفي الحديث : " لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة " .
وجدير بالبيان هنا أن الذي يذكر الله فيقول كلاما طيبا وهو مؤدٍّ لفرائض الله فلا ريب في ارتفاع ما يقوله من طيب الكلام وما يقوم به من عمل . أما إذا لم يؤد فرائض الله من عبادات ونحوها وقد ذكر الله وقال كلاما طيبا من تلاوة وتسبيح وتهليل ونحو ذلك ، فما ينبغي القول إن ذلك كله مردود أو غير متقبَّل ، وإنما يقال متقبَّل ، وهو مكتوب له بالرغم من كونه عاصيا بتركه فرائض الله . وهو بذلك له حسناته وعليه سيئاته ، والله يتقبَّل من المرء ما قدَّم من صالح القول والعمل ، إن اجتنب الشرك .
قوله : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } { السَّيِّئَاتِ } منصوب على أنهه مفعول لقوله : { يَمْكُرُونَ } أي يعملون السيئات . وقيل : صفة لمصدر محذوف وتقديره : يمكرون المكرات السيئات : ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه{[3847]} والمراد بالذين يمكرون السيئات ، أهل الشرك . وقيل : هم المراؤون بأعمالهم ؛ فهم بذلك يمكرون بالناس ؛ إذ يوهمونهم أنهم طائعون لله . وهم في الحقيقة بغيضون إليه ، بعيدون من رحمته ورضوانه . وقيل : المراد بهم المشركون . والصواب أنها عامة لتشمل المشركين والمنافقين والمرائين والماكرين الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين . أولئك جميعا { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي عذاب جهنم .
قوله : { وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } { مَكْرُ } مبتدأ ، وخبره { يبور } هو ضمير فصل بين المبتدأ وخبره{[3848]} { يبور } من البوار وهو الهلاك . والرجل البور : هو الفاسد الهالك الذي لا خير فيه . وكذلك المرأة البور . وقوم بور : أي هلكى . وأباره الله : أي أهلكه . وبار المتاع إذا كسد . وبارت البياعات : كسدت . وبارت الأيِّم إذا لم يُرغَب فيها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من بوار الأيم ، وبارت الأرض : إذا لم تزرع . وبار عمله : أي بطل{[3849]} والمراد : أي الرياء ؛ فإنهم ماكرون يخادعون الناس بأعمالهم ، فإن أعمالهم صائرة إلى البوار ، وهو الهلاك والبطلان .
وقيل : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم : فإما إثباته ، أي حبسه . وإما قتله ، أو إخراجُه . وقد مرَّ بيان ذلك في سورة الأنفال .