( وأشرقت الأرض بنور ربها ) . .
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض . ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام . .
( ووضع الكتاب ) . . الحافظ لأعمال العباد . .
( وجيء بالنبيين والشهداء ) . . ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون . . وطوي كل خصام وجدال - في هذ المشهد - تنسيقاً لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام :
( وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون . ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) . .
فلا حاجة إلى كلمة تقال ، ولا إلى صوت واحد يرتفع .
ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى . لأن المقام هنا مقام روعة وجلال .
بنور ربها : بما يقيمه في الأرض من الحق والعدل .
69- { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون } .
أشرقت أرض المحشر بنور عدل الله تعالى ، وعظيم بهائه وسلطانه .
أي : وضعت صحائف أعمال العباد بين يديه ، وقد سجل فيها الحسنات والسيئات ، فالسعداء يأخذون كتبهم باليمين ، والأشقياء يأخذون كتبهم بالشمال .
قال تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } . ( الإسراء : 13 ، 14 ) .
{ وجيء بالنبيين والشهداء . . . } .
يجمع الله الرسل أجمعين إلى موقف الحشر ، فيسألهم : بماذا أجابتكم أممكم ؟ قال تعالى : { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم . . . } ( المائدة : 109 ) .
وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيّد أعمال العباد . قال تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } . ( ق : 21 ) .
أي : سائق يسوقها للحساب ، وشاهد يشهد عليها .
وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذي استشهدوا في سبيل الله ، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه فكذّب بالحق ، كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره .
لقد أفادت الآية أن الأرض تحولت إلى ساحة للقضاء ، تجلّى فيها نور الجبار سبحانه وتعالى ، ووزّع على كل إنسان كتابه ، وفيه صحائف أعماله ، ثم قال تعالى : { وقضي بينهم . . . } وقُضِيَ بين العباد بالعدل والصدق .
أي : لا يبخس من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم ، بل يكون الجزاء عادلا ، من عند الإله العادل .
قال تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } . ( النساء : 40 ) .
وقال تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } . ( الأنبياء : 47 ) .
قوله عز وجل { وأشرقت الأرض } أضاءت { بنور ربها } بنور خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو . وقال الحسن ، والسدي : بعدل ربها ، وأراد بالأرض عرصات القيامة { ووضع الكتاب } أي : كتاب الأعمال . { وجيء بالنبيين والشهداء } قال ابن عباس : يعني : الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء : يعني الحفظة . يدل عليه قوله تعالى :{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ( ق-21 ) { وقضي بينهم بالحق } أي : بالعدل ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم .
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن ، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي ، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن الظلم ظلامة كذلك فقال : { وأشرقت } أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة { الأرض } أي التي أوجدت لحشرهم ، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لا سيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال : { بنور ربها } أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل ، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً ، وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة .
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة ، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال : { ووضع الكتاب } أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به .
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين ، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف ، وقد يتبعه من أراد الله به الخير ، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً ، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس ، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال : { وجاء بالنبيين } للشهادة على أممهم بالبلاغ . ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين ، عبر بجمع الكثرة فقال : { والشهداء } أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية ، ووقع الجزاء على حسب ذلك ، فظهر العدل رحمة للكفار ، وبان الفضل رحمة للمسلمين { وقضى بينهم } أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم ، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال : { بالحق } بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل .
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما ، أزال ذلك بقوله : { وهم } أي باطناً وظاهراً { لا يظلمون * } أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً ، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً .