ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين ) . .
{ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 ) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( 23 ) }
وما ألتناهم : وما أنقصنا الآباء بسبب إلحاق الأبناء بهم .
رهين : مرهون عند الله بعمله ، والعمل الصالح يفكّه ، والعمل الطالح يوبقه .
21- { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
نوع من أنواع الفضل الإلهي على أهل الجنة ، فإذا كان الآباء في الدرجات العليا من الجنة ، والأبناء اشتركوا معهم في الإيمان ، وقصَّروا عن الآباء في الأعمال الصالحة ، فإن الله تعالى يتفضل على الآباء بأن يرفع درجات الأبناء في الجنة ، ويلحقهم بآبائهم ، لتقر عيونهم بهذا الاجتماع الأسري ، وجَمع الشمل بين الإنسان وآبائه وأبنائه ، ولا ينقص الآباء من درجاتهم شيئا ، لأن الآباء قد عملوا أعمالا أهَّلتهم للدرجات العليا .
{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
أي : كل إنسان مرتبط بعمله ، فهو الذي يرفعه وهو الذي يخفضه ، وليس من العدل أن ينقص الأب درجة من أجل ابنه .
فالله تعالى عامل الأبناء بالفضل ورفع درجتهم ، وعامل الآباء بالعدل وأبقاهم في المنزلة العليا في الجنة . حكمة منه وعدلا وفضلا وإحسانا .
إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في المنزلة ، لتقرَّ بهم عينه ، وقرأ الآية .
( رواه الحاكم ، والبيهقي في سننه ) .
وفي رواية الطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل الجنة ، سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا رب ، قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به " . وقرأ ابن عباس الآية : { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
والآية على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في الكبار من الذريّة دون الصغار .
وروي عن ابن عباس والضحاك وغيرهم أنهم قالوا : إن الله يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين ، كما يلحق الكبار المكلّفين المؤمنين الذين لم يبلغوا درجة آبائهم في العمل الصالح والبعد عن المعاصي ، يلحقهم بآبائهم في درجتهم في الجنة ، إكراما لهم ولتكمل بهم مسرتهم . أ . ه
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان . . } بيان لحال طائفة من أهل الجنة ، وهم الذين شاركتهم ذريتهم – الأقل منهم عملا – في الإيمان . والذرية : تصدق على الأبناء والآباء ؛ أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر ، ألحق به من دونه في العمل ، ابنا كان أو أبا ، سواء كان الأبناء صغارا أم كبارا . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل ؛ لتقر بهم عينه . وعنه مرفوعا : ( إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ؛ فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقوله " والذين آمنوا " مبتدأ خبره جملة " ألحقنا بهم ذريتهم " أي في الدرجة ، " واتبعتهم " عطف على " آمنوا " . و " بإيمان " متعلق به ، والباء للسببية أو الظرفية ؛ أي اتبعتهم بسبب الإيمان أو فيه . { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا المتبوعين من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق ذريتهم بهم في الدرجة ؛ بل أعطيناهم ثوابهم كاملا ، ورفعنا ذريتهم إلى درجتهم فضلا وإحسانا . يقال : ألته حقه يألته – من باب ضرب – نقصه . { كل امرئ بما كسب رهين } أي كل امرئ مرهون عند الله بكسبه وعمله ؛ فإن كان عمله صالحا فكّ نفسه وخلصها ، كما يخلص المرهون من يد مرتهنه ؛ وإلا أهلكها .
وما ألَتناهم من عملهم : ما أنقصناهم .
هم وذريّاتهم الطيبة ، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم ، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح .
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات . وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع . والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع .
{ والذين آمنوا } : أي حق الإِيمان المستلزم للإِسلام والإِحسان .
{ واتبعتهم ذريتهم بإيمان } : أي كامل مستوفٍ لشرائطه ومنها الإِسلام .
{ ألحقنا بهم ذريَّتَهُم } : أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك .
{ وما ألتناهم من عملهم من شيء } : أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئاً .
{ كل امرئ بما كسب رهين } : أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل .
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى : { والذين آمنوا } أي حق الإِيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم . وقوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملاً غير منقوص ورفعنا إليه أبناءهم بفضلٍ منا ورحمة . وقوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع الى درجاتهم أبناءهم تفضيلا وإحسانا .
- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء ما يكون فيه .
- فضل الإِيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الأبناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح .
- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه إلا الله عز وجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإِيمان والإِسلام والإِحسان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال في التقديم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} يعني من أدرك العمل من أولاد بني آدم المؤمنين فعمل خيرا فهم مع آبائهم في الجنة، ثم قال: {ألحقنا بهم ذريتهم} يعني الصغار الذين لم يبلغوا العمل من أولاد المؤمنين فهم معهم وأزواجهم في الدرجة لتقر أعينهم.
{وما ألتناهم من عملهم من شيء} يقول: وما نقصنا الآباء إذا كانوا مع الأبناء من عملهم شيئا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرّياتهم المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم، تكرمة لآبائهم المؤمنين، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء... عن ابن عباس، قال: إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، ليقرّ بهم عينه، ثم قرأ «وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم وَما أَلَتْناهمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم التي بلغت الإيمان بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء...
وقال آخرون نحو هذا القول، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله:"أَلْحَقْنا بِهِمْ "من ذكر الذرّية، والهاء والميم في قوله: ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين. وقالوا: معنى الكلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار، وما ألتنا الكبار من عملهم من شيء...
وقال آخرون: بل معنى ذلك "وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِم ذُرّيّتَهُمْ" فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء... وقال آخرون: إنما عنى بقوله: «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ»: أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الآباء...
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل... هو: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأتبعناهم ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان، وآمنوا بالله ورسوله، ألحقنا بالذين آمنوا ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم، وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لآبائهم، وما ألتناهم من أجور عملهم شيئا.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك الأغلب من معانيه، وإن كان للأقوال الآخر وجوه...
وقوله: "وما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وما ألتنا الآباء، يعني بقوله: "وَما ألَتْناهُمْ": وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا، فنأخذه منهم، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم، ولكنا وفّيناهم أجور أعمالهم، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم، تفضلاً منا عليهم. والألت في كلام العرب: النقص والبخس... عن سعيد بن جُبَير "وَما أَلَتْناهُمْ" قال: وما ظلمناهم.
وقوله: "كُل امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" يقول: كلّ نفس بما كسبت وعملت من خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد والذرية يوجِب تَنَغص العيش...
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}. أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا. وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا. {كُلُّ امْرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} مُطَالَبٌ بعمله، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين ءامَنُواْ} معطوف على {بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم...
{واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم}... فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم... {بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم...
فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم... {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولفظة {ألحقنا} تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه، إنما هو فضل الله على الجميع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان. والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم...
ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته. والتنكير في قوله: {بإيمان} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد...
وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم. و {كل امرئ} يعمّ أهل الآخرة كلهم. وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة. والمعنى: انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه. وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما: أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما: أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} ليجتمع شمل المؤمنين العائلي، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية، ما جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة...
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } يريد أنه يلحق الأولاد بدرجة الآباء في الجنة اذا كانوا على مراتب وكذلك الآباء بدرجة الأبناء لتقر بذلك أعينهم فيلحق بعضهم بعضا اذا اجتمعوا في الايمان من غير أن ينقص من أجر من هو أحسن عملا شيئا بزيادته في درجة الأنقص عملا وهو قوله { وما ألتناهم } أي وما نقصناهم { من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب }
قوله تعالى : " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم " قرأ العامة " واتبعتهم " بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء . وقرأ أبو عمرو " وأتبعناهم " بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون ، اعتبارا بقوله : " ألحقنا بهم " ليكون الكلام على نسق واحد . " ذريتهم " الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم . وقرأ الباقون " ذريتهم " على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع . فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع . الباقون " ذريتهم " على التوحيد وفتح التاء . واختلف في معناه ، فقيل عن ابن عباس أربع روايات : الأولى أنه قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه ، وتلا هذه الآية . ورواه مرفوعا النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقر بهم عينه ) ثم قرأ " والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان " الآية . قال أبو جعفر : فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون ؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه . الزمخشري : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم . وعن ابن عباس أيضا أنه قال : إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان ، قاله المهدوي . والذرية تقع على الصغار والكبار ، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى : " بإيمان " في موضع الحال من المفعولين ، وكان التقدير " بإيمان " من الآباء . وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله : " بإيمان " حالا من الفاعلين . القول الثالث عن ابن عباس : أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون . وفي رواية عنه : إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء ، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء ، فالآباء داخلون في اسم الذرية ، كقوله تعالى : " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون{[14298]} " [ يس : 41 ] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنةَ سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم : إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقالت خديجة رضي الله عنها : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي : ( هما في النار ) فلما رأى الكراهية في وجهي قال : ( لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ) قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : ( في الجنة ) ثم قال : ( إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار ) ثم قرأ " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان " الآية .
قوله تعالى : " وما ألتناهم من عملهم من شيء " أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم ، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم . والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى : " والذين أمنوا " . وقال ابن زيد : المعنى " واتبعتهم ذريتهم بإيمان " ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل ، فالهاء والميم على ، هذا القول للذرية . وقرأ ابن كثير " وما ألتناهم " بكسر اللام . وفتح الباقون . وعن أبي هريرة " آلتناهم " بالمد ، قال ابن الأعرابي : أَلَتَهُ يألِتُهُ ألتا ، وآلته يولته إيلاتا ، ولاته يليته لَيْتاً كلها إذا نقصه . وفي الصحاح : ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه ، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى ، ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى ب " الحجرات " {[14299]} .
قوله تعالى : " كل امرئ بما كسب رهين " قيل : يرجع إلى أهل النار . قال ابن عباس : ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم ، ولهذا قال : " كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين{[14300]} " [ المدثر : 38 ] . وقيل : هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله ، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله . ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم .
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم ، أتبعهم من هو أدنى منهم حالاً لتكون النعمة تامة فقال : { والذين آمنوا } يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة . ولما كان من هؤلاء من لا يتبعه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه ، عطف على فعلهم تمييزاً لهم واحترازاً عمن لم يثبت قوله : { واتّبعتهم }{[61555]} أي بما لنا من الفضل الناشىء عما لنا من العظمة { ذرياتهم }{[61556]} الصغار والكبار وإن كثروا ، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمان آبائهم { بإيمان } أي بسب إيمان حاصل منهم ، ولو كان في أدنى درجات الإيمان ، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا ، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات ، ويجوز أن يراد وهو أقرب : بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كباراً ، وحكماً إن كانوا صغاراً ، ثم أخبر عن الموصول بقوله : { ألحقنا بهم } أي فضلنا لأجل عمل آبائهم { ذرياتهم }{[61557]} وإن لم يكن للذرية أعمال ، لأنه قيل في المعنى : " ولأجل عين ألف عين تكرم " ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر ، فتكون{[61558]} ذرية الإفادة كذرية الولادة ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" المرء مع من أحب " في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم .
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئاً من درجاتهم ، قال : { وما ألتناهم } أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم { من عملهم } وأكد النفي بقوله : { من شيء } بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم ، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب ، قال جامعاً للفريقين ، أو يقال - و{[61559]}لعله أقرب - أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلاً ، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله : { كل امرىء } أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم { بما كسب } أي من ولد وغيره { رهين * } أي مسابق ومخاطر ومطلوب وآخذ شيئاً بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصياً ، فمن كان صالحاً كان آخذاً بسبب صلاح{[61560]} ولده لأنه كسبه ، ولا يؤخذ به ذلاً وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان حقيقة أو حكماً وكل حسن مرتفع ، فلذلك يلتحق بأبيه ، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره ، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه ، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها ، قال الرازي في اللوامع : اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها ، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم ، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها ، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين ، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين ، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة ، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعلم الحق ، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد ، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته ، لو أحب أحدكم حجراً لحشر معه ، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله ، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة ، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم{[61561]} آبائهم جارياً عليهم وحكم القيامة نافذاً فيهم ، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلاً وباطلاً ينقص أوله آخره وآخره أوله ، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي ، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت ، فهي على استحالة بين الموت والحياة ، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها }[ النساء :56 ] انتهى . وهو كما ترى في غاية النفاسة ، ويؤيده " يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها من النفي ، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون " كل امرىء " قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه { بما كسب } أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره " رهين " أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح .