ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
انظرونا : انتظرونا أو أمهلونا .
نقتبس : أصل الاقتباس : طلب القبس ، أي : الجذوة من النار ، والمراد نستضيء ونهتدي بنوركم .
13- { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } .
ما أشد هول هذا اليوم ، إنه يوم الجزاء ، فالدنيا عمل ولا حساب ، والآخرة حساب ولا عمل .
انظر يا كل من يتأتى منه النظر ، الجزاء الحسن للمؤمنين ، نورهم يسعى أمامهم وعن يمينهم ، وتبشرهم الملائكة بالجنة ، ويُحبس المنافقون في ظلام دامس : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } ( النور : 40 ) .
عندئذ يمر المؤمنون في موكب التكريم والتعظيم ، والنور المبين ، فيقول المنافقون للمؤمنين : انتظرونا حتى نستضيء بجزء من نوركم ، ونسير فيه إلى الجنة ، فيقول المؤمنون لهم : ارجعوا إلى الدنيا ، فاعملوا العمل الصالح الذي يكسبكم النور يوم القيامة ، وهو تهكم بهم لأنه لا رجعة إلى الدنيا أبدا بعد القيامة ، كما أن اللبن يعود إلى الضرع بعد أن يُحلب منه ، ولله در القائل :
صاح هل ريِْتَ أو سمعت براع *** ردّ في الضرع ما قرى في الحلاب
لقد كان المنافقون يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا ، فرد الله لهم جزاء وفاقا ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله : { الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } . ( البقرة : 15 ) .
{ فضرب بينهم سور له باب . . . }
أي : ضُرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجز له باب يحجز بين أهل الجنة وأهل النار .
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . . . } .
يفصل الله تعالى بين أهل الجنة وأهل النار بهذا السور الذي يحجز بين الفريقين ، جانب السور الذي يلي المؤمنون فيه الجنة والرحمة والثواب والنعيم ، وظاهر هذه السور وجانبه الذي يلي المنافقين والكفار يكون من جهته العذاب الأليم .
قال ابن كثير : هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب ، وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة .
{ انظرونا نقتبس من نوركم } أي انتظرونا لنلحق بكم نصب شيئا من نوركم نستضئ به . وذلك أنه يسرع بالخلص إلى الجنة على نجب فيقول المنافقون : انتظرونا لأننا مشاة لا نستطيع لحوقكم . وقرئ " أنظرونا " بفتح الهمزة وكسر الظاء ؛ من الإنظار بمعنى الانتظار ؛ أي انتظرونا . والاقتباس في الأصل : طلب القبس ، أي الجذوة من النار ؛ وتجوز به عما ذكر . { فضرب بينهم بسور } أي
فضرب بين المؤمنين والمنافقين سور حاجز . قيل : هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف .
نقتبس من نوركم : نستضيء بنوركم .
باطنه فيه الرحمة : الجنة . وظاهره من قِبله العذاب : من جهته جهنم .
ثم بيّن حالَ المنافقين في ذلك اليوم العظيم ، وكيف يطلبون من المؤمنين أن يساعِدوهم بشيءٍ من ذلك النورِ الذي منحَهم الله إيّاه ليستضيئوا به ويلحقوا بهم . فيسخَرُ المؤمنون منهم ويتهكّمون عليهم ويقولون : ارجِعوا إلى الدنيا واعملوا حتى تحصُلوا على هذا النور . وهذا مستحيل . فيُضرَب بينهم بحاجزٍ عظيم يكونُ المؤمنون داخلَه في رحابِ الجنة ، والمنافقون والكافرون خارجَه يذهبون إلى النار .
قرأ حمزة : أنظِرونا نقتبس من نوركم بفتح الهمزة وكسر الظاء من الفعل انظِر . والباقون : انظُرونا بضم الظاء .
فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون به{[981]} وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين ، قالوا للمؤمنين : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } أي : أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به ، لننجو من العذاب ، ف { قِيلَ } لهم : { ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } أي : إن كان ذلك ممكنا ، والحال أن ذلك غير ممكن ، بل هو من المحالات ، { فَضُرِبَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي : حائط منيع ، وحصن حصين ، { لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } وهو الذي يلي المنافقين .
ولما عظم هذا الأجر الكريم ببيان ما لأهله في الوقت الكائن فيه ، عظمه بما لأضدادهم من النكال ، فقال مبدلاً من الظرف الأول : { يوم يقول } أي قولاً مجدداً لما{[62459]} يلجئ إليه من الأمور العظيمة الشاقة { المنافقون والمنافقات } أي بالعراقة في إظهار الإيمان وإبطان الكفران { للذين آمنوا } أي ظاهراً وباطناً ، وأما من علا من هذا السن من المؤمنين ومن فوقهم فالظاهر أنهم لا يرونهم ليطمعوا في مناداتهم{[62460]} " وأين الثريا من يد المتناول " { انظرونا } أي انظرونا بأن تمكثوا في مكانكم لنلحق بكم ، وكأن الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما{[62461]} توصل المقدرة إليه خوف الفوت ، لأن المسؤولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف ، وقد حققت المعنى قراءة حمزة{[62462]} بقطع الهمزة وكسر الظاء أي أخرونا في المشي وتأنوا علينا وأمهلوا علينا ، لا تطلبوا منا السرعة فيه بل امكثوا في مكانكم لننظر في أمرنا كيف نلحق بكم ، والحاصل{[62463]} أنهم عدوا تأنيهم في المشي وتلبثهم ليلحقوا بهم إنظاراً لهم { نقتبس } أي نأخذ ونصيب ونستصبح { من نوركم } أي هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه بشيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم {[62464]}ولا نتعلق من ذلك بشيء جزاء وفاقاً ، وسبب هذا القول أنهم يعطون مع المؤمنين نوراً{[62465]} خديعة لهم بما خادعوا في الدنيا لتعظم عليهم المشقة بفقده لأنه لا يلبث أن يبعث الله عليهم ريحاً وظلمة فتطفئ نورهم ويبقون في الظلمة ، وإلى ذلك ينظر قول المؤمنين { أتمم لنا نورنا } أي لا{[62466]} تطفئه كما أطفأت نور المنافقين .
ولما كان المنكئ لهم إنما هو الرد من{[62467]} أي قائل كان ، بنى للمفعول قوله : { قيل } أي لهم جواباً لسؤالهم قول رد وتوبيخ وتهكم وتنديم : { ارجعوا وراءكم } أي في جميع جهات الوراء التي هي أبعد الجهات عن الخير كما كنتم في الدنيا لا تزالون مرتدين على أعقابكم عما يستحق أن يقبل عليه ويسعى إليه { فالتمسوا } بسبب ذلك الرجوع { نوراً } ويصح أن يراد بالوراء الدنيا لأن هذا النور إنما هو منها بسبب ما عملوا فيها من الأعمال الزاكية والمعارف الصافية ، ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء : إن هذه الآية تدل على أن الأنوار لا بد أن يتجدد أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً فأمّا{[62468]} أن يتجدد ثَمَّ نور فلا .
ولما كان التقدير : فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة ، سبب عنه وعقب قوله : { فضرب } مبنياً للمفعول على نحو الأول ، ولإفادة أن الضرب كان في غاية السرعة والسهولة ، ويجوز أن تكون الفاء معقبة على ما قبله من غير تقدير { بينهم } أي في جميع{[62469]} المسافة التي بين الذين آمنوا وأضدادهم في وقت قولهم هذا .
ولما كان المقصود أن ضربه كان في غاية السرعة ، لم يوقع الفعل وأتى بالفاء ليفيد أنه كان كأنه عصاً ضربت به الأرض ضربة واحدة ، فقال : { بسور } أي جدار محيط محيل بين الجنة والنار لا يشذ عنه أحد منهم ولا يقدر أحد ممن سواهم أن يتجاوزه إليهم { له باب } موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن الله له من المؤمنين بما{[62470]} يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم لشفاعة أو نحوها { باطنه } أي ذلك السور والباب وهو الذي من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب { فيه الرحمة } وهي ما لهم من الكرامة بالجنة التي هي ساترة ببطن من فيها بأشجارها وبأسبابها كما كانت بواطنهم ملاء رحمة{[62471]} { وظاهره } أي السور أو{[62472]} الباب الذي يظهر لأهل النار ، مبتدئ { من قبله } أي تجاه ذلك الظاهر وناحيته وجهته وعنده { العذاب * } من النار{[62473]} ومقدماتها لاقتصار أهله على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن وعكس ما أرادوا من حفظ ظواهرهم في الدنيا مع فساد بواطنهم ،