ويتصل بتلك الحقيقة الأولى أن حملة العرش ومن حوله - وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود - يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم ، ويستغفرون لهم ، ويستنجزون وعد الله إياهم ؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين :
( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ؛ إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات - ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته - وذلك هو الفوز العظيم ) . .
ونحن لا نعرف ما هو العرش ? ولا نملك صورة له ، ولا نعرف كيف يحمله حملته ، ولا كيف يكون من حوله ، حوله ؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها ، ولا من
الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها ؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله ، ( يسبحون بحمد ربهم ) . ( ويؤمنون به ) . . وينص القرآن على إيمانهم - وهو مفهوم بداهة - ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر . . هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن .
وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال . يقولون :
( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ) . .
يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم - في طلب الرحمة للناس - إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء ؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء ؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون :
( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) . .
وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة ، وبصفة الله هناك : ( غافر الذنب وقابل التوب ) . . كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم ، بصفة الله : ( شديد العقاب ) . .
{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويِؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ( 7 ) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ( 8 ) وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ( 9 ) }
الذين يحملون العرش : الملائكة الكروبيون ، وحملة العرش عند بعضهم مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له .
العشر : في اللغة بمعنى سرير الملك ، وهنا يراد به : مركز تدبير العالم .
يسبحون بحمد ربهم : يقولون : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم .
ويؤمنون به : ويؤمنون بالله عن يقين وتصديق .
ويستغفرون : يطلبون المغفرة للمؤمنين .
وسعت كل شيء : يقولون : يا ربنا وسعت كل شيء رحمتك وعلمك .
فاغفر للذين تابوا : سامح من تاب إليك وتجاوز عن سيئاته .
هذه آيات تشير إلى فضل الله وعظمته وجليل نعمائه وتفضله على عباده .
7-{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } .
الذين يحملون عرش الله من الملائكة ، والذين يحفّون به من الملائكة تعظيما لله ، هؤلاء يسبّحون بحمد الله ، ويذكرون آلاءه ذكرا وتسبيحا مقرونا بالحمد ، فيقولون : سبحان الله وبحمد ، سبحان الله العظيم ، ويؤمنون بوحدانية الله ، وعدم الإشراك في عبادته ، ويطلبون المغفرة للمؤمنين ، وقبول توبة التائبين ، ويقولون : يا ربنا شملت رحمتك كل شيء ، وأحاط بالجميع علمك ، فاغفر يا ربنا لمن تاب إليك ، واتبع سبيلك وهديك ، وآمن بك وبرسلك ، وسار على صراطك المستقيم ، واحفظ اللهم هؤلاء المؤمنين من عذاب النار ومن سعير الجحيم .
{ الذين يحملون العرش . . . } أي الملائكة الحاملون للعرش والحافون به{ يسبحون بحمد ربهم } أي ينزهونه تعالى عن كل مالا يليق بجلاله ، متلبسين بالثناء عليه{ ويؤمنون به } إيمانا كاملا{ ويستغفرون للذين آمنوا } مثلهم ، فهم مثابرون على ولاية المؤمنين ونصرتهم . وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيز للمؤمنين . ويقال لهؤلاء الملائكة : الكروبيون – أي الأقربون – جمع كروبي ؛ من كرب بمعنى قرب . { ربنا وسعت . . } أي يقولون في استغفارهم ذلك . { فاغفر }
بمقتضى سعة رحمتك وعلمك{ للذين تابوا } أي علمت منهم التوبة من الذنوب ، واتباع سبيل الهدى الذي دعوت إليه{ وقهم عذاب الجحيم } احفظهم منه .
قوله تعالى : " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به " ويروى : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشراف الملائكة وأفضلهم . ففي الحديث : ( أن الله تبارك وتعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة ) . ويقال : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوامه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام . وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم ، ورافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف ، وقد وضعوا الإيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وقرأ ابن عباس : " العرش " بضم العين ، ذكر جميعه الزمخشري رحمه الله . وقيل : اتصل هذا بذكر الكفار ؛ لأن المعنى والله أعلم - " الذين يحملون العرش ومن حوله " ينزهون الله عز وجل عما يقوله الكفار وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير ، وأنه جسم مجسم خلقه الله عز وجل ، وأمر ملائكة بحمله ، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به ، كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة . وروى ابن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام ) ذكره البيهقي وقد مضى في " البقرة " {[13358]} في آية الكرسي عظم العرش وأنه أعظم المخلوقات . وروى ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن كعب الأحبار أنه قال : لما خلق الله تعالى العرش قال : لن يخلق الله خلقا أعظم مني ، فاهتز فطوقه الله بحية ، للحية سبعون ألف جناح ، في الجناح سبعون ألف ريشة ، في كل ريشة سبعون ألف وجه ، في كل وجه سبعون ألف فم ، في كل فم سبعون ألف لسان . يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر ، وعدد ورق الشجر ، وعدد الحصى والثرى ، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين ، فالتوت الحية بالعرش ، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به{[13359]} . وقال مجاهد : بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة ، وحجاب نور وحجاب ظلمة . " ربنا " أي يقولون " ربنا " " وسعت كل شيء رحمة وعلما " أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، فلما نقل الفعل عن الرحمة والعلم نصب على التفسير . " فاغفر للذين تابوا " أي من الشرك والمعاصي " واتبعوا سبيلك " أي دين الإسلام . " وقهم عذاب الجحيم " أي اصرفه عنهم حتى لا يصل إليهم . قال إبراهيم النخعي : كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير من ابن الكواء ، هم يستغفرون لمن في الأرض ، وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر ، قال إبراهيم : وكانوا يقولون لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة . وقال مطرف بن عبد الله : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان ، وتلا هذه الآية . وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية : افهموها فما في العالم جنة أرجى منها ، إن ملكا واحدا لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم ، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين . وقال خلف بن هشام البزار القارئ : كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت : " ويستغفرون للذين آمنوا " بكى ثم قال : يا خلف ما أكرم المؤمن على الله ، نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له .
ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله : { وما يجادل في آيات الله } ما بعده ، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً ، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عادوهم فيه سبحانه ، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال ، أو يقال : إنه لما بين حقوق كلمة العذاب ، كان كأنه قيل : فكيف النجاة ؟ قيل : بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية ، فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر ، فقال مظهراً لشرف الإيمان وفضله : { الذين يحملون العرش } وهم المقربون وهم أربعة كما يذكر إن شاء الله تعالى في الحاقة ، فإذا كانت القيامة كانوا ثمانية ، وهل هم أشخاص أو صفوف فيه كلام يذكر إن شاء الله تعالى { ومن حوله } وهم جميع الملائكة وغيرهم ممن ربما أراد الله كونه محيطاً به كما تقدم في التي قبلها { وترى الملائكة حافين من حول العرش } أي طائفين به ، فأفادت هذه العبارة النص على الجميع مع تصوير العظمة .
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء ، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا ، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه : { يسبحون } أي ينزهون أي يوقعون تنزيهه سبحانه عن كل شائبة نقص ملتبسين { بحمد } وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد ، وكائنون تحت تصرفه وقهره ، وإحسانه وجبره ، فقال : { ربهم } أي بإحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال .
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً ، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة ، لا فرق بينهم في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله : { ويؤمنون به } لأن الإيمان إنما يكون بالغيب . ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف ، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا ، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود ، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده ، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله : { ويستغفرون } أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً .
ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب ، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة : { للذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو { وما قدروا الله حق قدره } { ويعفو عن كثير } " لن يدخل أحد الجنة بعمله " . ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره . ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه ، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول ، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال : { وسعت كل شيء } ثم بين جهة التوسع بقوله تمييزاً محولاً عن الفاعل : { رحمة } أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك { وعلماً } أي وأحاط بهم علمك ، فمن أكرمته فعن علم بما جبلته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً .
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك ، قالوا منبهين على ذلك : { فاغفر للذين تابوا } أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها ، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها { واتبعوا } أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا { سبيلك } المستقيم الذي لا لبس فيه . ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب ، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له ، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا : { وقهم عذاب الجحيم * } أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم ، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ، ولا يبدل القول لديك ، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء .