واللمسة الثانية في صميم القلب الإنساني ، الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد الله . مؤمنا تارة وكافرا تارة . وهو وحده الذي يقف هذا الموقف الفريد .
( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) . .
فعن إرادة الله وعن قدرته صدر هذا الإنسان ؛ وأودع إمكان الاتجاه إلى الكفر وإمكان الاتجاه إلى الإيمان ؛ وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله ؛ ونيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد . وهي أمانة ضخمة وتبعة هائلة . ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز والقدرة على الاختيار ؛ وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله ويقيس به اتجاهه . وهو الدين الذي نزله على رسل منه . فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة . ولم يظلمه شيئا .
فهو رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل ، بصير بحقيقة نيته واتجاهه ، فليعمل إذن وليحذر هذا الرقيب البصير . .
وهذا التصور لحقيقة الإنسان وموقفه هو طرف من التصور الإسلامي الواضح المستقيم لموقف الإنسان في هذا الوجود ، واستعداداته وتبعاته أمام خالق الوجود .
فمنكم كافر ومنكم مؤمن : قال الشوكاني : خلق الكافر وكفره فعل له وكسب ، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب . والكافر يكفر ويختار الكفر ، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان ، والكل بإذن الله ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله .
2- { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
الله تعالى خالق كل شيء ، وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وسخّر له كل شيء في الكون ، وكرّم الله الإنسان فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له الملائكة ، ومنحه العقل والإرادة والاختيار وجعل الإنسان مكونا من جسم وروح ، جامعا بين لقوى البدنية والقوى العلوية .
فمن الناس من اختار الكفر والضلال والإلحاد بكسبه وإرادته ، ومن الناس من اختار الإيمان والطاعة والهداية ، والسير على الصراط المستقيم ، فسار مع الفطرة الإلهية ، واتسق مع الكون ، لأن الكون كله خاضع لأمر الله ، مُسبح بحمده ، والإنسان مؤمن بالفطرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، كما تولد البهيمة هل تحسون فيها من جدعاء ؟ فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ix . ( رواه البخاري ) .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } .
هو تعالى مطلع على أعمالكم ، وسيجازيكم عليها بالعدل ، ولا يظلم ربك أحدا } . ( الكهف : 49 ) .
{ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ . . . }
أي : منكم كافر بخلقه ، وأنه هو الذي خلقه ، ومنكم مصدّق به مؤمن أنه خالقه وبارئه .
{ يسبح لله ما في السماوات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير } قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً . وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافرا " . وقال جل ذكره { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً }( نوح- 27 ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد ، عن عبد الله بن أبي بكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وكل الله بالرحم ملكاً فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال : يا رب أذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه " . وقال جماعة : معنى الآية : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم ، فقال : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } كما قال الله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه }( النور- 45 ) والله خلقهم والمشي فعلهم . ثم اختلفوا في تأويلها : فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : { فمنكم كافر } في حياته مؤمن في العاقبة ، { ومنكم مؤمن } في حياته كافر في العاقبة . وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب . وقيل : فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه ، وهو مذهب الدهرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه . وجملة القول فيه : أن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسبا ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسبا ، فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار ، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته ، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه . وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر .
قوله : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } الله ذو علم في الأزل بكل ما يجري وكل ما هو آت . فما من شيء واقع في هذا الكون إلا يحيط به علم الله في الأزل ، حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر واقع بعلم الله . قال القرطبي في تأويل ذلك : والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر . وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ، لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه . ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدّر عليه وعلمه منه ، لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود المعلوم جهل ، ولا يليقان بالله تعالى ، وفي هذا سلامة من الجبر والقدر .
قوله : { والله بما تعملون بصير } الله عليم بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء .