ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة ، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير ! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة . في ارتقاب الحساب المرهوب . . وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد . ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب . ومرهوب بما وراءه من حساب . ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر ، والمنعم المتفضل ، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين !
ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق . يقال لها :
جاثية : باركة على الركب مستوفزة .
28- { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } .
تصف الآية مشهدا من مشاهد القيامة ؛ يشتد فيه الهول ؛ وتزفر جهنم زفرة لا يبقى أحد إلا جثا على ركبتيه مستوفزا ، لا يلمس الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله .
قال الحسن : ترى كل أمة باركة على الركب ، كل مجموعة أو ملة واحدة تدعى إلى كتابها ، أي : صحيفة عملها . وقيل : كل ملة تدعى إلى الكتاب المنزل عليها .
ولسان الحال أو لسان المقال يقول : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } .
هذا يوم الجزاء على أعمالكم : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
قوله تعالى : " وترى كل أمة جاثية " أي من هول ذلك اليوم . والأمة هنا : أهل كل ملة . وفي الجاثية تأويلات خمس : الأول : قال مجاهد : مستوفزة . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله . الضحاك : ذلك عند الحساب . الثاني : مجتمعة قاله ابن عباس . الفراء : المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين . الثالث : متميزة ، قاله عكرمة . الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج . الخامس : باركة على الركب قاله الحسن . والجثو : الجلوس على الركب . جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جُثُوّا وجُثِيا ، على فعول فيهما ، وقد مضى في " مريم " {[13799]} : وأصل الجثوة{[13800]} : الجماعة من كل شيء . قال طرفة يصف قبرين :
ترى جُثْوَتَيْنِ من تراب عليهما *** صفائحُ صُمٍّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ{[13801]}
ثم قيل : هو خاص بالكفار ، قاله يحي بن سلام . وقيل : إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب . وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كأني أراكم بالكوم{[13802]} جاثين دون جهنم " ذكره الماوردي . وقال سلمان : إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي " لا أسألك اليوم إلا نفسي " . " كل أمة تدعى إلى كتابها " قال يحي بن سلام : إلى حسابها . وقيل : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قال مقاتل . وهو معنى قول مجاهد . وقيل : " كتابها " ما كتبت الملائكة عليها . وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه . وقيل : الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ . وقرأ يعقوب الحضرمي " كل أمة " بالنصب على البدل من " كل " الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى ، إذ ليس في جثوها شيء من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها . وقيل : انتصب بإعمال " ترى " مضمرا . والرفع على الابتداء . " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " من خير أو شر .
ولما كان ذلك من شأن اليوم مهولاً ، عم في الهول بقوله مصوراً لحاله : { وترى } أي في{[58300]} ذلك اليوم { كل أمة } من الأمم الخاسرة فيها والفائزة { جاثية } أي مجتمعة لا يخلطها غيرها ، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها{[58301]} تؤمر به ، جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ، ينتظروا القضاء الحاتم ، والأمر الجازم اللازم ، لشدة ما يظهر لها من هول{[58302]} ذلك اليوم . ولما كان كأن قيل : هم{[58303]} مستوفزون ، قال : { كل أمة } أي من الجاثين { تدعى إلى كتابها } أي الذي أنزل إليها وتعبدها الله به والذي نسخته الحفظة من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر ، فمن وافق{[58304]} كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ، ومن خالفه هلك ، ويقال لهم حال الدعاء : { اليوم تجزون } على وفق الحكمة بأيسر أمر { ما } أي عين{[58305]} الذي { كنتم } بما هو لكم كالجبلات { تعملون * } أي مصرين عليه غير راجعين عنه من-{[58306]} خير أو شر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.