في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعا للتندر والمزاح . . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر ! ? وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعلي الباقي أنا أكفيكموهم ! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .

عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . . .

تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .

فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله ؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين ! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .

( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) . .

فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل ؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره . أما لماذا كانوا تسعة عشر [ أيا كان مدلول هذا العدد ] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعا ? لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ? لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر ? لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين ? لماذا ? لماذا ? لماذا ? والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد ! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .

( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) . .

فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا ؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله . . وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيمانا . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .

( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . .

وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيمانا ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .

( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) . .

كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله ؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال ؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .

وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة . وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة ! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة !

لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج - بقدر طاقتنا - تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .

إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه ! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .

( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .

فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصلفي شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .

( وما هي إلا ذكرى للبشر ) . .

( وهي )إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر ؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا !

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

خزنة جهنم

{ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر 31 كلاّ والقمر 32 والليل إذ أدبر 33 والصبح إذا أسفر 34 إنها لإحدى الكبر 35 نذير للبشر 36 لمن شاء منكم أن يتقدّم أو يتأخّر 37 }

المفردات :

أصحاب النار : خزنة جهنم .

ملائكة : أي : ليسوا بشرا مثلكم يطاقون .

فتنة : سبب فتنة واختبار وامتحان ، أو ضلال للذين كفروا .

ليستيقن : ليستبين ، أو ليوقن .

أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .

مرض : نفاق وشك .

مثلا : حديثا ، أو ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل .

كذلك : مثل إضلال المنكر لهذا العدد ، كأبي جهل وأحزابه ، وهداية مصدّقه .

جنود ربك : خلقه من الملائكة وغيرهم .

ذكرى : تذكرة وموعظة للناس .

31

التفسير :

31- وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر .

لم نجعل زبانية جهنم أفرادا من البشر حتى يزعم كفار مكة أنهم يستطيعون التغلّب عليهم ، بل هم ملائكة لا حدود لطاقاتهم ، فقد استطاع جبريل وحده أن يقتلع قرى قوم لوط ، وأن يرفعها إلى السماء ، ثم يهوي بها حيث جعل الله عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، فالملائكة قوة خارقة للعادة ، ولا تأخذهم الرحمة أو الرأفة بأهل النّار .

قال تعالى : عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ( التحريم : 6 ) .

ولأن الملائكة أشد خلق الله بأسا ، وأقواهم بطشا ، فلا يقدر أهل النار عليهم ، ولا يستطيعون مغالبتهم .

وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا . . .

أي : امتحانا للكفار ، واختبارا لهم ، حيث استبعدوا أن يكون العدد القليل كافيا لتعذيب أهل جهنم ، وما علموا أنّ أحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ، وليس للعقل فيها مجال ، ولأنهم قالوا : لم هذا العدد بالذّات ، ولم يكملوا عشرين ؟ وما علموا أن أفعال الله تعالى لا تعلل ، فقد ذكر الله ذلك العدد لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى ، كما أفاد بذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير .

ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا . . .

ليتيقن الذين أوتوا الكتاب –وهم اليهود والنصارى- بأن محمدا صادق ، وأن القرآن حقّ ، حيث إن العدد الذي ذكره القرآن الكريم ، هو نفس العدد الذي ذكرته الكتب السماوية التي بين أيديهم .

ويزداد الذين آمنوا إيمانا بصدق نبيّهم ، وكتاب ربهم ، حيث ينضمّ إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل .

قال الآلوسي : أخرج الترمذي ، وابن مردويه ، عن جابر قال : قال ناس من اليهود لأناس من المسلمين : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( هكذا وهكذا ) ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة .

وبذلك ترى أن ازدياد الذين آمنوا إيمانا ، حيث يزيدون تصديقا لنبيّهم ولكتاب ربهم ، وحيث يجدون ذلك مؤيدا بما في الكتب السابقة .

ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون . . .

أي : فعلنا ذلك ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى الله عليه وسلم ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ولتزول كل شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب ، وعلى قلوب المؤمنين ، وهذا الكلام تأكيد لما قبله ، من الاستيقان وزيادة الإيمان ، ونفي لما قد يعترى المستيقن من شبهة وشكّ ، فإذا جمع لهم إثبات اليقين ونفي الشك ، كان آكد وأبلغ .

وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون . . .

أي : ليقول المنافقون والكافرون بمكة ، المصرّون على التكذيب .

ماذا أراد الله بهذا مثلا . . .

ما الذي أراده الله بهذا العدد ( 19 ) المستغرب استغراب المثل ؟ وأي حكمة قصدها الله من جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين ؟ ومرادهم إنكار الأمر من أصله ، وأنه ليس من عند الله ، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص ، كما يقول الزمخشري .

كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء . . .

كذلك يضل الله من يشاء من الكافرين ، ويهدي من يشاء من المؤمنين ، ولله الحجة البالغة والحكمة العالية .

ولا يضلّ إلا من آثر الهوى ، وكره الهدى ، وآثر الحياة الدنيا ، فالجحيم هي مأواه ، ولا يهدي إلا من تأمّل في دلائل الإيمان ، وآثر الآخرة على الدنيا ، وخاف مقام ربه واستهدى بهدايته .

وما يعلم جنود ربك إلا هو . . .

أي : لا يعلم عددهم وكثرتهم وقدرتهم وقوّتهم إلا الله تعالى ، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر وقد ثبت في حديث الإسراء الذي أخرجه الشيخان ، في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : ( فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم ) .

وروى الإمام أحمد ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى )v .

أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : حسن غريب .

وأخرج الحافظ الطبراني ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف ، إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، إلا أنّا لم نشرك بك شيئا ) .

وقد أورد الحافظ ابن كثر في تفسيره –وغيره من المفسرين- طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة تبين كثرة جنود الله تعالى ، وامتلاء السماء بملائكة ساجدين راكعين .

كما قال تعالى : وإنّا لنحن الصّافّون* وإنا لنحن المسبّحون . ( الصافات : 165 ، 166 ) .

وما هي إلا ذكرى للبشر .

ليست سقر التي ذكرنا لكم أن عليها تسعة عشر ملكا ، إلا تذكرة للبشر ، ليتعظوا ويتجنّبوا حرّها ولهيبها ، ويذكروا قدرة الله الواسعة التي لا تحتاج إلى ملك ولا إلى تسعة عشر ، ويعلموا كمال قدرة الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً } وذلك لشدتهم وقوتهم . { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } يحتمل أن المراد : إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة ، ولزيادة نكالهم فيها ، والعذاب يسمى فتنة ، [ كما قال تعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } ] ويحتمل أن المراد : أنا ما أخبرناكم بعدتهم ، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب ، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } فإن أهل الكتاب ، إذا وافق ما عندهم وطابقه ، ازداد يقينهم بالحق ، والمؤمنون كلما أنزل الله آية ، فآمنوا بها وصدقوا ، ازداد إيمانهم ، { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } أي : ليزول عنهم الريب والشك ، وهذه مقاصد جليلة ، يعتني بها أولو الألباب ، وهي السعي في اليقين ، وزيادة الإيمان في كل وقت ، وكل مسألة من مسائل الدين ، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق ، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد{[1285]}  الجليلة ، ومميزا للكاذبين من الصادقين ، ولهذا قال : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشبهة ونفاق . { وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } وهذا على وجه الحيرة والشك ، والكفر منهم بآيات الله ، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه ، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال :

{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فمن هداه الله ، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه ، وزيادة في إيمانه ودينه ، ومن أضله ، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة ، وظلمة في حقه ، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم ، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم { إلَّا هُوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده ، وأخبركم بها العليم الخبير ، فعليكم أن تصدقوا خبره ، من غير شك ولا ارتياب ، { وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } أي : وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب ، وإنما المقصود به أن يتذكر [ به ] البشر ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه .


[1285]:- في ب: المقاصد.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} يعنى خزن النار.

{وما جعلنا عدتهم} يعني قلتهم {إلا فتنة للذين كفروا} حين قال أبو الأشدين، وأبو جهل ما قالا، فأنزل الله تعالى في قول أبي جهل: ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، {وما يعلم جنود ربك إلا هو} يقول: ما يعلم كثرتهم أحد إلا الله... وأنزل الله في قول أبي الأشدين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر: {عليها ملائكة غلاظ شداد} [التحريم:6].

{وما جعلنا أصحب النار إلا ملائكة} يعنى خزان النار.

{وما جعلنا عدتهم} يعني قلتهم {إلا فتنة للذين كفروا} يعني أبا جهل، وأبا الأشدين، والمستهزئين من قريش،.

{ليستيقن} لكي يستيقن {الذين أوتوا الكتاب} يقول: ليعلم مؤمنو أهل التوراة أن الذي قال محمد صلى الله عليه وسلم حق، لأن عدة خزان جهنم في التوراة تسعة عشر.

{ويزداد الذين آمنوا إيمانا} يعني تصديقا، ولا يشكوا في محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به.

{ولا يرتاب} يقول: ولكي لا يرتاب يعني لكي لا يشك يقول: لئلا يشك {الذين أوتوا الكتاب} يعني أهل التوراة {و} لا يشك {والمؤمنون} أن خزنة جهنم تسعة عشر.

{وليقول الذين في قلوبهم مرض} يعني الشك، وهم اليهود من أهل المدينة {والكافرون} من أهل مكة، يعني مشركي العرب {ماذا أراد الله بهذا مثلا} يعني ذكره عدة خزنة جهنم، يستقلونهم.

{كذلك يضل الله} بهذا المثل {من يشاء} عن دينه {ويهدي من يشاء} إلى دينه. ثم رجع إلى سقر، فقال: {وما هي} يعني سقر {إلا ذكرى للبشر} يعني سقر تذكر وتفكر للعالم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة. يقول لأبي جهل في قوله لقريش: أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة.

"وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا"، يقول: وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش.

"لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ" يقول تعالى ذكره: ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس، قوله: "لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا"، قال: وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشرة، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.

" وَلا يَرْتابَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ" يقول: ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

"وَليَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ" يقول تعالى ذكره: وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق، والكافرون بالله من مشركي قريش ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً.

"كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ". يقول تعالى ذكره: كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم: أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم، ويهتدي به المؤمنون، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا.

"كَذلكَ يُضِل اللّهُ مَنْ يَشاءُ" مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ.

"ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ" منهم، فيوفقه لإصابة الصواب.

"وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ" من كثرتهم "إلاّ هُوَ": يعني الله.

"وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَرِ" يقول تعالى ذكره: وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر، وهم بنو آدم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ} فيه ثلاثة أوجه:

...

...

...

...

...

...

...

...

....

....

الثالث: وما هذه السورة إلا تذكرة للناس، قاله ابن شجرة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان هذا غير مميز للمعدود، وكانت الحكمة في تعيين هذا العد غير ظاهرة، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً، قال تعالى- مبيناً لذلك: {وما جعلنا} أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي خزنتها {إلا ملائكة} أي إنهم ليسوا من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسوا كالبشر، بل الواحد منهم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود، فكيف إذا كان كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى {وما جعلنا} على ما لنا من العظمة {عدتهم} أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا {إلا فتنة} أي حالة مخالطة مميلة محيلة {للذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث أن بعض أغبياء قريش وهو أبو جهل، قال: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي -وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، وهذا كله على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره، وكان في علم أهل الكتاب أن هذه العدة عدتهم، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً لشك أكثرهم وموضعاً للتعنت، فلذلك علق بالفتنة أو ب "جعلنا " قوله: {ليستيقن} أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة {الذين أوتوا الكتاب} بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي مع أنه معروف أنه هو الله... {ويزداد الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان {إيماناً} بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم. ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال: {ولا يرتاب} أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب {الذين أوتوا الكتاب} لما عندهم من العلم المطابق لذلك.

{والمؤمنون} أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في مثل ضوء النهار. {وليقول الذين} استقر {في قلوبهم مرض} أي شك أو نفاق وإن قل، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني.

{والكافرون} أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق {ماذا} أي أي شيء {أراد الله} أي الملك الذي له جميع العظمة {بهذا}: أي العدد القليل في جنب عظمته {مثلاً} أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً، وما علموا أن القليل من حيث العدد قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد، ويكون أدل على استجماع العظمة. ولما كان التقدير: أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي، كان كأنه قيل: هل يفعل مثل هذا في غير هذا؟ فقال جواباً: {كذلك} أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية {يضل الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {من يشاء} بأي كلام شاء {ويهدي} بقدرته التامة {من يشاء} بنفس ذلك الكلام أو بغيره.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} وذلك لشدتهم وقوتهم. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها، والعذاب يسمى فتنة، [كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}] ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق، والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من الصادقين، ولهذا قال: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك وشبهة ونفاق. {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم {إلَّا هُوَ} فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب، {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب، وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة).. فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله؛ وقد قال لنا عنهم: إنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم. فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه. فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة، كما يعلمها الله، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور. (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا).. فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل. فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده، بالقدر الذي ذكره، وأن لا مجال للجدل فيه، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره. أما لماذا كانوا تسعة عشر [أيا كان مدلول هذا العدد] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله، ويخلق كل شيء بقدر. وهذا العدد كغيره من الأعداد. والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض.. لماذا كانت السماوات سبعا؟ لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار؟ لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر؟ لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ والجواب: لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور.. (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون).. فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان. فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها. وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا. لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله.. وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق، فتزيد قلوبهم إيمانا. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله. (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟).. وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة.. فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون، والذين آمنوا يزيدون إيمانا، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون: (ماذا أراد الله بهذا مثلا؟).. فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب. ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق. ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.. (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء).. كذلك. بذكر الحقائق وعرض الآيات. فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا. ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله. فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء. وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك، في حدود المشيئة الطليقة، ووفق حكمة الله المكنونة. وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة. وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة! لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال. وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز. وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر. ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا. وقال لنا: إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة.. فعلينا أن نعالج -بقدر طاقتنا- تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة. وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة. ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون. ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه.. إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه. وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا. والذي سيكون هو مشيئته، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق.. وهو الله وحده.. وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر.. (وما يعلم جنود ربك إلا هو).. فهي غيب. حقيقتها. ووظيفتها. وقدرتها.. وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، وقوله هو الفصلفي شأنها. وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه، فليس إلى معرفة هذا من سبيل.. (وما هي إلا ذكرى للبشر).. (وهي) إما أن تكون هي جنود ربك، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها. وهي من جنود ربك. وذكرها جاء لينبه ويحذر؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم . وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا . " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة " أي بلية . وروي عن ابن عباس من غير وجه قال : ضلالة للذين كفروا ، يريد أبا جهل وذويه . وقيل : إلا عذابا ، كما قال تعالى : " يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم " [ الذاريات : 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب . وفي " تسعة عشر " سبع قراءات{[15589]} : قراءة العامة " تسعة عشر " . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان " تسعة عشر " بإسكان العين . وعن ابن عباس " تسعة عشر " بضم الهاء . وعن أنس بن مالك " تسعة وعشر " وعنه أيضا " تسعة وعشر " . وعنه أيضا " تسعة أعشر " ذكرها المهدوي وقال : من قرأ " تسعة عشر " أسكن العين لتوالي الحركات . ومن قرأ " تسعة وعشر " جاء به على الأصل قبل التركيب ، وعطف عشرا على تسعة ، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال ، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها . ومن قرأ " تسعة عشر " فكأنه من التداخل ؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب ، فرفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء وأسكن . وأما " تسعة أعشر " : فغير معروف ، وقد أنكرها أبو حاتم . وكذلك " تسعة وعشر " لأنها محمولة على " تسعة أعشر " والواو بدل من الهمزة ، وليس لذلك وجه عند النحويين . الزمخشري : وقرئ : " تسعة أعشر " جمع عشير ، مثل يمين وأيمن .

قوله تعالى : " ليستيقن الذين أوتوا الكتاب " أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم . ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام . ويحتمل أنه يريد الكل . ويزداد الذين آمنوا إيمانا " بذلك ؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم . " ولا يرتاب " أي ولا يشك " الذين أوتوا الكتاب " أي أعطوا الكتاب " والمؤمنون " أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر . " وليقول الذين في قلوبهم مرض " أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة ، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة . وقيل : المعنى ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة . " والكافرون " أي اليهود والنصارى " ماذا أراد الله بهذا مثلا " يعني بعدد خزنة جهنم . وقال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف و " الكافرون " أي مشركو العرب . وعلى القول الأول أكثر المفسرين . ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم : " ماذا أراد الله " أي ما أراد " بهذا " العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث . قال الليث : المثل الحديث ، ومنه : " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي حديثها والخبر عنها " كذلك " أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم " يضل الله " أي يخزي ويعمي " من يشاء ويهدي " أي ويرشد " من يشاء " كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : " كذلك يضل الله " عن الجنة " من يشاء ويهدي " إليها " من يشاء " . " وما يعلم جنود ربك إلا هو " أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار " إلا هو " أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر ! وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فأتاه جبريل فجلس عنده ، فأتى ملك فقال : إن ربك يأمرك بكذا وكذا ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا ، فقال : ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال : هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف . وقال الأوزاعي : قال موسى : " يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي . قال كم عدتهم يا رب ؟ قال : اثني عشر{[15590]} سبطا . قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب " ذكرهما الثعلبي . وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أطت{[15591]} السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) .

قوله تعالى : " وما هي إلا ذكرى للبشر " يعني الدلائل والحجج والقرآن . وقيل : " وما هي " أي وما هذه النار التي هي سقر " إلا ذكرى " أي عظة " للبشر " أي للخلق . وقيل : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة . قال الزجاج . وقيل : أي ما هذه العدة " إلا ذكري للبشر " أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ، فالكناية على هذا في قوله تعالى : " وما هي " ترجع إلى الجنود ؛ لأنه أقرب مذكور .


[15589]:ورد في الأصول ست قراءات فقط ولعل السابعة قراءة سليمان بن قتة "تسعة أعشر" بضم التاء وهمزة مفتوحة وسكون العين وضم الشين وجر الراء. وتعقب السمين هذه القراءات فقال: "في هذه الكلمة قراءات شاذة وتوجيهات تشاكلها".
[15590]:كذا في الأصول: والصواب: اثنا عشر.
[15591]:الأطيط: صوت الأقتاب (إ كاف البعير). وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط. (النهاية).
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

ولما كان هذا غير مميز للمعدود{[69856]} ، وكانت الحكمة في {[69857]}تعيين هذا{[69858]} العد غير ظاهرة ، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً ، قال تعالى-{[69859]} مبيناً لذلك : { وما جعلنا } أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه{[69860]} { أصحاب النار } أي خزنتها { إلا ملائكة } أي {[69861]}إنهم ليسوا{[69862]} من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق ، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسو كالبشر بل الواحد منهم يصيح صيحة واحدة فيهلك{[69863]} مدينة كاملة كما وقع لثمود ، فكيف إذا كان كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً{[69864]} تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى { وما جعلنا } على ما لنا من العظمة { عدتهم } أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا { إلا فتنة } أي حالة مخالطة مميلة محيلة { للذين كفروا } أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه ، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به-{[69865]} ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث أن{[69866]} بعض أغبياء قريش{[69867]} وهو أبو جهل ، قال : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، وهذا كله على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره ، وكان في علم أهل الكتاب{[69868]} أن هذه العدة عدتهم ، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً لشك أكثرهم وموضعاً للتعنت ، فلذلك علق بالفتنة أو ب " جعلنا " قوله : { ليستيقن } أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة { الذين أوتوا الكتاب } بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء{[69869]} كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي{[69870]} مع أنه معروف أنه هو الله ، قال البغوي{[69871]} : مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر . { ويزداد الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان { إيماناً } بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه ، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم .

ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت ، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال : { ولا يرتاب } أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب { الذين أوتوا الكتاب } لما{[69872]} عندهم من العلم المطابق لذلك ، قال ابن برجان : وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما " أن قوماً من أهل الكتاب جاؤوا إليه في قضية - فيها طول ، وفيها أنهم{[69873]} سألوه عن خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وهكذا ، في مرة عشرة وفي مرة تسعة ، فقالوا : بارك الله فيك يا أبا القاسم ، ثم سألهم : ما خزنة الجنة ؟ فسكتوا هيبة ثم-{[69874]} قالوا : خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخبزة من الدرمك "

والمؤمنون } أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في{[69875]} مثل ضوء النهار { وليقول الذين } استقر { في قلوبهم مرض } أي شك أو نفاق وإن قل ، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة ، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين ، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول ، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول : خرجت-{[69876]} من البلد لمخالفة أكثر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض { والكافرون } أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق { ماذا } أي أي شيء { أراد الله } أي الملك الذي له جميع العظمة { بهذا } : أي العدد القليل في جنب عظمته { مثلاً } أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل ، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً ، وما علموا أن القليل من حيث العدد {[69877]}قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد ، ويكون أدل على استجماع العظمة . ولما كان التقدير{[69878]} : أراد بهذا إضلال من ضل{[69879]} وهو لا يبالي ، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي ، {[69880]}كان كأنه{[69881]} قيل : هل يفعل{[69882]} مثل هذا في غير هذا ؟ فقال{[69883]} جواباً : { كذلك } أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية { يضل الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز { من يشاء } بأي كلام شاء { ويهدي } بقدرته التامة { من يشاء } بنفس ذلك الكلام أو{[69884]} بغيره ، وذلك من حكم جعل الخزنة تسعة عشر والإخبار عنهم بتلك العدة فإن إبراز الأحكام على وجه الغموض من أعظم المهلكات والمسعدات ، {[69885]}لأن المنحرف{[69886]} الطباع يبحث عن عللها بحثً متعنت ، فإذا عميت عليه قطع ببطلان تلك الأحكام أو شك ، وربما أبى الانقياد ، وذلك هو سبب كفر إبليس والمستقيم المزاج يبحث-{[69887]} مع التسليم فإن ظهر له الأمر ازداد تسليماً وإلا قال : آمنت بذلك كل من عند ربنا - فكان في غاية ما يكون من تمام الانقياد لما{[69888]} يعلم سره - رزقنا الله التسليم لأمره وأعاننا على ذكره وشكره .

ولما كان هذا مما يوهم{[69889]} قلة جنوده تعالى ، أتبعه ما{[69890]} يزيل ذلك فقال : { وما } أي والحال أنه ما { يعلم جنود ربك } أي المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك بغاية الإتقان من جعل النار وخزنتها وجعلهم على هذه العدة وغير ذلك ، فلا تعلم عدتهم لأجل كثرتهم وخروجهم عن طوق المخلوق وما هم عليه من الأوصاف في الأجساد والمعاني { إلا هو } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ، فلو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك ، فقد روي أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود إليهم{[69891]} نوبة أخرى ، وقد ورد أن الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة-{[69892]} وكل سماء في التي فوقها كذلك ، وقد ورد في الخبر{[69893]} : أطت السماء وحق لها أن تئط{[69894]} ما فيها موضع قدم إلا وفيه{[69895]} ملك قائم يصلي .

وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو ، ومن أراد{[69896]} إطلاعه على ذلك من عباده مع أن{[69897]} الكفاية تقع بدون ذلك ، فقد كان في{[69898]} الملائكة من اقتلع مدائن قوم لوط وهي سبع {[69899]}ورفعها{[69900]} إلى عنان السماء ، وكل ما في الإنسان من الجواهر والإعراض من جنود الله {[69901]}لو سلط{[69902]} عليه شيء من نفسه لأهلكه : لو تحرك عرق ساكن أو سكن متحرك أو انسد مجوف أو تجوف منسد لهلك .

ولما ذكر شيئاً من أسرار سوق الأخبار عنها غامضاً ، وكان ذلك من رحمة العباد ليفتح لهم باباً إلى التسليم لما يغمض من تذكيرهم بأمر مليكهم لأن العاجز لا يسعه في المشي على قانون الحكمة إلا التسليم للقادر وإلا أهلك نفسه وما ضر غيرها ، خص أمرها في التذكير تأكيداً للإعلام تذكيراً {[69903]}بالنعمة لأجل ما{[69904]} لأغلب المخاطبين من اعوجاج الطباع المقتضي للرد والإنكار ، المقتضي لسوق الكلام على وجه التأكيد فقال : { وما هي } أي النار التي هي من-{[69905]} أعظم جنوده سبحانه وتعالى : { إلا ذكرى للبشر } أي تذكرة عظيمة {[69906]}لكل من{[69907]} هو ظاهر البشرة فبدنه أقبل شيء للتأثر بها لأجل ما يعرفون منها في دنياهم ، وإلا فهو سبحانه وتعالى قادر على إيجاد ما هو أشد منها وأعظم وأكثر إيلاماً مما لا يعلمه الخلائق .


[69856]:من ظ، وفي الأصل و م: للمحدود.
[69857]:من ظ، وفي الأصل و م: هذا تعيين.
[69858]:من ظ، وفي الأصل و م: هذا تعيين.
[69859]:زيد من ظ.
[69860]:من ظ و م، وفي الأصل: عليه.
[69861]:في ظ: فليسوا.
[69862]:في ظ: فليسوا.
[69863]:زيد في الأصل: أهل، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69864]:من ظ و م، وفي الأصل: رئيس.
[69865]:زيد من ظ و م.
[69866]:ومن هنا تعرضت صفحة من الأصل للطمس فانتسخناها من ظ ونسخة م أيضا مطموسة بعض الطمس.
[69867]:راجع المعالم 7/147.
[69868]:زيد في ظ: ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[69869]:من م، وفي ظ: الإعطاء.
[69870]:من م، وفي ظ المعطى.
[69871]:في المعالم 7/148.
[69872]:من م، وفي ظ: ما.
[69873]:في م: أن.
[69874]:زيد من م.
[69875]:من م، وفي ظ: من.
[69876]:إلى هنا انتهى الطمس في الأصل.
[69877]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[69878]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[69879]:من ظ و م، وفي الأصل: أصل.
[69880]:من ظ و م، وفي الأصل: كأنه كان.
[69881]:من ظ و م، وفي الأصل: كأنه كان.
[69882]:من ظ و م، وفي الأصل: الفعل.
[69883]:من ظ و م، وفي الأصل: قال.
[69884]:من ظ و م، وفي الأصل:"و".
[69885]:من ظ و م، وفي الأصل: لا من مسخرف.
[69886]:من ظ و م، وفي الأصل: لا من مسخرف.
[69887]:زيد في ظ، لا –كذا.
[69888]:زيد في ظ، لا-كذا.
[69889]:من ظ، وفي الأصل: يفهم.
[69890]:من ظ، وفي الأصل: بما.
[69891]:من ظ و م، وفي الأصل: إليه.
[69892]:زيد من ظ و م.
[69893]:راجع جامع الترمذي- الزهد.
[69894]:من ظ و م، وفي الأصل: توط.
[69895]:من ظ و م، وفي الأصل: فيها.
[69896]:من م، وفي الأصل و ظ: أراده.
[69897]:من ظ و م، وفي الأصل: من.
[69898]:في الأصل: سبعة، وزيد في الأصل بعد: مداين ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69899]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[69900]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[69901]:من ظ و م، وفي الأصل: يسلط.
[69902]:من ظ و م، وفي الأصل: يسلط.
[69903]:من ظ، وفي الأصل و م: للنعمة يجعل ما.
[69904]:من ظ، وفي الأصل و م: للنعمة يجعل ما.
[69905]:زيد من ظ و م.
[69906]:من ظ، وفي الأصل و م: لمن.
[69907]:من ظ، وفي الأصل و م: لمن.