وفضل الله في الآخرة بلا حساب وبلا حدود ولا قيود . فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود ؛ لما يعلمه - سبحانه - من أن هؤلاء البشر لا يطيقون - في الأرض - أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود :
( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء . إنه بعباده خبير بصير ) . .
وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق - مهما كثرت - بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير . فالله يعلم أن عباده ، هؤلاء البشر ، لا يطيقون الغنى إلا بقدر ، وأنه لو بسط لهم في الرزق - من نوع ما يبسط في الآخرة - لبغوا وطغوا . إنهم صغار لا يملكون التوازن . ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد . والله بعباده خبير بصير . ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً ، بقدر ما يطيقون . واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض ، ويجتازون امتحانها ، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام . ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود .
لبغوا : لظلموا وتكبروا وتجاوزوا الحد .
27- { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزّل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } .
إن يد القدرة الحكيمة وراء ما نراه في توزيع الأرزاق ، فلو كان الناس جميعا أغنياء لاختل التوازن ، وانشغل بعضهم بالبغي والطغيان ، ولو كان الناس جميعا فقراء لتعطلت مصالح الناس ، واشتدت حاجتهم ، ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه وزع الأرزاق حسب ما تقتضيه حكمته تعالى ، فأغنى بعضا وأفقر بعضا ، وجعل طائفة وسطا .
قال ابن كثير : لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان ، من بعضهم على بعض أشرا وبطرا .
خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك ، كما جاء في الحديث القدسي ، عن أنس مرفوعا : ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ) .
{ ولكن ينزّل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } .
هو سبحانه صاحب التقدير والعطاء المناسب ، فيعطي لكل إنسان ما يراه مناسبا له ، فهو مطلع على أحوال عباده ، خبير بما يناسبهم ، وقد قص القرآن الكريم قصص عدد من المتكبرين المتبطرين من أمثال فرعون وهامان ، ومن أمثال قارون الذي حمله الغنى على الزهو والعجب والبطر والاستعلاء في الأرض بالباطل ؛ فخسف الله به وبداره الأرض ، عقوبة له على بطره وكبره ، وقد يبغي الفقير ولكن ذلك قليل ، والبغي مع الغنى أكثر وقوعا .
ثم ذكر أن من لطفه بعباده ، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة ، تضر بأديانهم فقال : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ }
أي : لغفلوا عن طاعة الله ، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم ، ولو كان معصية وظلما .
{ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني خبير بصير "
الأولى- قيل : إنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق . وقال خبَّابُ بن الأرت : فينا نزلت ، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت .
" لو بسط " معناه وسع . وبسط الشيء نشره . وبالصاد أيضا . " لبغوا في الأرض " طغوا وعصوا . وقال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس . وقيل : أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه ، لقوله : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ) وهذا هو البغي ، وهو معنى قول ابن عباس . وقيل : لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض ، ولتعطلت الصنائع . وقيل : أراد بالرزق المطر الذي هو سبب الرزق ، أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء ، فيقبض تارة ليتضرعوا ويبسط أخرى ليشكروا . وقيل : كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض ؛ فلا يبعد حمل البغي على هذا . الزمخشري : " لبغوا " من البغي وهو الظلم ، أي لبغى هذا على ذاك وذاك على هذا ؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بقارون عبرة . ومنه قول عليه السلام : ( أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ) . ولبعض العرب :
وقد جعل الوَسْمِيُّ يُنبت بيننا *** وبين بني دُودَانَ نَبْعًا وشَوْحَطَا{[13512]}
يعني أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتغابن . أومن البغي وهو البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد . " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم وقال مقاتل : " ينزل بقدر ما يشاء " يجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا .
الثانية- قال علماؤنا : أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح ، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوي عنه الدنيا مصلحة له . فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة الرزق فضيلة ، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد ، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح . والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته ، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال : ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره إساءته ولا بد له منه . وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه . وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا ، فإن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته . وإن من عبادي المؤمنين من يسألني الباب من العبادة وإني عليم أن لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى ، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير ) . ثم قال أنس : اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني برحمتك .
ولما كان المتبادر من الاستجابة إيجاد كل ما سألوه في هذه الدنيا على ما أرادوه وكان الموجود غير ذلك بل كان أكثر أهل الله مضيقاً عليهم ، وكانت الإجابة إلى كل ما يسأل بأن يكون في هذه الدار يؤدي في الغالب إلى البطر المؤدي إلى الشقاء فيؤدي ذلك إلى عكس المراد ، قال على سبيل الاعتذار لعباده وهو الملك الأعظم مبيناً أن استجابته تارة تكون كما ورد به الحديث لما سألوه ، وتارة تكون بدفع مثله من البلاء وتارة تكون بتأخيره إلى الدار الآخرة { ولو } أي هو يقبل ويستجيب والحال أنه لو { بسط } ولما كان هذا المقام عظيماً لاحتياجه إلى الإحاطة بالخلائق والإحاطة بأخلاقهم وأوصافهم وما يصلحهم ويفسدهم والقدرة على كل بذل ومنع ، عبر بالاسم الأعظم فقال : { الله } أي الملك الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال تنبيهاً على عظمة هذا المقام : { الرزق } لهم - هكذا كان الأصل ، لكنه كره أن يظن خصوصيته ذلك بالتائبين فقيل : { لعباده } أي كلهم التائب منهم وغيره بأن أعطاهم فوق حاجتهم { لبغوا في الأرض } أي لصاروا يريدون كل ما يشتهونه ، فإن لم يفعل سعوا في إنفاذه كالملوك بما لهم من المكنة بكل طريق يوصلهم إليه فيكثر القتل والسلب والنهب والضرب ونحو ذلك من أنواع الفساد ، وقد تقدم في النحل من الكلام على البغي ما يتقن به علم هذا المكان .
ولما كان معنى الكلام أنه سبحانه لا يبسط لهم ذلك بحسب ما يريدونه ، بنى عليه قوله سبحانه : { ولكن ينزِّل } أي لعباده من الرزق { بقدر } أي بتقدير لهم جملة ولكل واحد منهم لا يزيد عن تقدير ذره ولا ينقصها { ما يشاء } من الماء الذي هو أصل الرزق والبركات التي يدبر بها عباده كما اقتضته حكمته التي بنى عليها أحوال هذه الدار .
ولما كان أكثر الناس يقول في نفسه : لو بسط ليّ الرزق لعملت الخير ، وتجنبت الشر ، وأصلحت غاية الإصلاح ، قال معللاً ما أخبر به في أسلوب التأكيد : { إنه } وكان الأصل : بهم ، ولكنه قال : { بعباده } لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم : { خبير بصير * } يعلم جميع ظواهر أمورهم وحركاتهم وانتقالاتهم وكلامهم وبواطنها فيقيم كل واحد فيما يصلح له من فساد وصلاح وبغي وعدل ، ويهيئ لكل شيء من ذلك أسبابه .